.... التّوجيه المدرسي
نبل الغاية وسلامة المقاربات
أجمع المختصون على أن التوجيه المدرسي مساعدة تقدم للتلاميذ لإقدارهم على
الإختيار وعلى اتخاذ القرار المناسب الذي يمكنهم من بناء مشاريعهم المستقبلية
وتحقيق الأهداف المدرسية التي يطمحون إليها وفقا للإمكانيات التي يتمتعون بها .
وهو ما يجعل من هذه العملية سيرورة متدرجة على مدى السنين ، بما يؤكد الحاجة لدوام
الإتصال بالتلاميذ ومرافقتهم والإصغاء إليهم . وبهذا يكون التوجيه المدرسي عملا
ثريا مميزا تلتقي عنده عديد الرؤى والمقاربات الخاصة بالإختيار والقرار وبناء المشاريع
التي تشترك فيها عديد الأطراف وتنفتح على مجالات شتى . كما تتحدد وظائفه في تقديم
المساعدة وتوفير المرافقة المسترسلة لضمان التقدم الدراسي الميسّر وتوفير ممهدات
المواصلة بنجاح وتميز وهو ما يستدعي :
-
تقييم قدرات التلميذ وميولاته بموضوعية .
-
تعريفه بالشعب والإختصاصات الدراسية والمهنية ومطابقتها مع ما لديه من
مؤهلات .
-
تشجيعه على الدراسة الموفقة إلى أقصى حد يسمح له به وضعه الفكري والنفسي
والإجتماعي بما يعني ضمان التوافق بين الذاتي والدراسي والأسري .
وبذلك تتوضح غايات التوجيه المدرسي لتجذّره في مسارات الحياة المدرسية
وتجعل منه آلية فعّالة من آلياتها تنبني جدارته على نبل هذه الغايات وعلى مقارباته
المنطقية السليمة التي جعلت منه منظومة فرعية متميّزة تثري المنظومة التربوية
العامة وتدعمها وتيسر مقبوليتها لدى المعنيين . وتشمل هذه المقاربات بناء
التمثّلات على أسس علمية وتعديلها كلما استدعى الأمر ، والتربية على الإختيار ،
والتربية على المشروع والتأسيس لتربية داعمة تشترك فيها ، إضافة للمستشارين ،
الأسرة بتوعيتها واقتراحاتها والمربون بتقييماتهم ورؤاهم التي تكتمل بها رغبة
التلميذ الحرّة وطموحاته الوجيهة لتبني جميعا منظومة التربية على التوجيه وتكتمل
بها ملامحها .
1 - التوجيه المدرسي ومسارات التمثل :
التوجيه المدرسي عملية إرشادية نرافق خلالها التلميذ على مدى السنة لنقدم
له النصح ونوفر له المعلومة ونساعده على حسن الإختيار وعلى اتخاذ القرار السليم . وخلال
الإتصال بمجموعات التلاميذ توزع عليهم الأدلة وتشرح لهم محتوياتها وكيفية
الإستفادة من المعلومات الواردة بها ، مثل ما تعلق بآفاق الإختصاصات الدراسية
وبشروط الإنتماء إليها . وتجمل هذه الوثائق عادة أسس عملية التوجيه المدرسي في
النقاط التالية : نتائج التلميذ ، مؤهلاته الفكرية والجسدية ، إهتماماته وميوله ،
رأي وليه ومقاييس التوجيه في كل شعبة .
وبهذا يبدو
التوجيه المدرسي حاسم التأثير على المستقبل المدرسي والمهني والإجتماعي للتلميذ . كما
أن الإختصاص الذي سيوجه له ، يتعمق في ما بعد ويتحدد أكثر في التوجيه الجامعي الذي
يلي الحصول على الباكالوريا ويمر إثره الطالب إلى الحياة المهنية ، ومن ثمة الحياة
الإجتماعية بشكل عام .
وهذا يعني ارتباط العملية بجملة من التقييمات المتداخلة للذات وللإختصاصات
والمهن ، يبنيها التلميذ عن نفسه والولي عن منظوره والمدرس عن تلاميذه . فعملية
الاختيار بما هي موازنة بين إمكانيات متعددة تنبني على مجموعة من التصورات
والاستنتاجات المستندة إلى رؤية ذهنية تختزل فهما لجميع العناصر المذكورة وهو ما
يسمى بالتمثلات. والتمثل هو بناء معرفي يتكون من " مجموعة منظمة من المعلومات
والمعارف والآراء ومن الصفات الخاصة بموضوع ما "
أو هو كما يقول ميشال هيتو : " بناء ذهني مرتبط
بموضوع .... ندرج ضمنه كذلك المشاعر التي تصاحب الوعي بخصوصيات الموضوع ، سواء
تعلق ذلك بشعور جملي مقابل الموضوع أو بمشاعر خاصة ببعض عناصره أو ببعض مميزاته "[1]. وهنا
تبرز بالخصوص قيمة الدور الاستشاري للمختصين الذين يرافقون التلميذ في بناء
تمثلاته وفي تحديد اختياراته الدراسية والمهنية من خلال مساعدته على اكتشاف مواهبه
وعلى إدراك واقع سوق الشغل وعلى إحراز التوافق بينه وبين الاختصاصات والمهن
الموجودة فعليا.
ولما كان تطور التمثلات
ينجز عبر مزج و دمج المعلومات المستفادة أو المنتقاة من طرف الفرد، فان ذلك يؤكد القيمة
الكبرى لمصدر هذه الأخيرة ودور الوسط الذي توجد داخله الذات في هذا التطور وأساسية
مقامها داخله وهو ما يستدل عليه عادة بالوضع الاجتماعي للأسرة وهكذا تعود بنا
مختلف هذه الملاحظات المذكورة الى التعريف الذي أوجده موسكو فتشي Moscovici للتمثل عندما قال : " يتهيكل التمثل انطلاقا من توجهين :
الأول يتجه إلى التفكير المتكامل في الموضوع والآخر ينحو نحو الإلمام بالواقع بشكل
تتكون معه وحدة مع مجموع التجارب السابقة ومع تموقع الذات."[2]
أي أن التمثل عنده هو صورة لعلاقة الذات العارفة بالموضوع كما وقع فهمه وبناؤه
وهيكلته حسب شخصية الذات وحسب تاريخها الخاص وقيمها وهذه الارتباطات الاجتماعية وهذا
التاريخ الاجتماعي للذات هو حسب جون قيشار J. GUICHARD
ما يسميه بيار بورديوBourdieu
" التطبع L’habitus
" .
وهكذا تتحدد قيمة التمثل
وتتعاظم أهميته إلى درجة أن الإختيار الذي يقبل عليه التلميذ خلال التوجيه المدرسي
لا يحدد في غالب الأحيان مباشرة بالوضعيات الدراسية التي يوجد داخلها لكن أيضا
بالتمثل الذي يكونه عنها وعن ذاته وعن عناصر المشهد الإجتماعي الأخرى ، وهو ما
يستدعي عقلنة هذا الإختيار وبناءه على أسس موضوعية . وهذا تأكيد للعلاقة الوثيقة
بين تمثل الذات وتمثل مواضع وجودها وخياراتها التي تسعى الى تحقيقها أو تلك التي جسمت
فيها المفاضلة بشكل نهائي .
أ - تمثل
الذات:
إن تمثل الذات هو تجل
منظم لإدراكاتها ولقيمها ومبادئها ولقدراتها ومؤهلاتها التي تحدد على أساسها
تموقعها وتبني اختياراتها ومواقفها أو كما يقول ميشال هيتو " هو بناء ذهني
تجمع فيه الذات بعض الادراكات التي تمتلكها عن نفسها إضافة الى طموحاتها الى
التغيير والمعايير التي استوعبتها الى حد ما.... ويفسر السلوك عادة بإرادة الحد من
التباعد بين هذين التمثلين للذات أي بين
الأنا المثالي وأنا الذي ندركه "[3]. والمؤكد من خلال هذه
الملاحظات أن التمثل يكتسب ويبنى بنمو ادراكات الفرد ونمو عواطفه وكذلك يتدرج
التمثل بتدرج صاحبه من مرحلة عمرية لأخرى ومن مستوى معرفي لغيره . وهو يؤثر بعمق
في اختيارات التلميذ وفي رسوماته المستقبلية التي يبنيها خلال عملية التوجيه
المدرسي .
ب - تمثل عالم المهن:
ينمو تمثل أو إدراك
المهن وينضج هو أيضا حسب ما ستعيشه الذات العارفة من تدرج ومن ترقي . وقد تكون هذه
التصورات نهائية ولا تراجع المواقف من بعض المهن ولا يعاد فيها النظر في ما بعد
خاصة ما تعلق بتمييز المهن حسب خصوصيات الجنس وتبويبها حسب ما يتلاءم مع الذكور أو
مع الإناث فيتواصل تحكمها في السلوك وفي توجيهه واختياراته .
وبذلك تبرز سلسلة الصور
النمطية والقوالب الجاهزة في تأثيرها على تمثلات المهن لدى التلاميذ ويرتسم مثلا
ادعاء عدم التجانس بين جنس الإناث والاختصاصات العلمية والتقنية خاصة . وقد أثبتت البحوث
أن تمثلات تلاميذ التعليم العام ومعرفتهم بالمهن تبقى منقوصة بسبب قلة الاتصال مع
وضعيات العمل المنتج وعدم معايشتهم لها ، بخلاف تلاميذ التعليم التقني الذين تتوفر
لهم فرص الإطلاع على ظروف العمل من خلال ما يقومون به من تربصات ميدانية وهو ما
يؤثر بعمق على تمثلاتهم للمهن ولذواتهم أيضا .
كما أن ارتباط التمثل
بالزمن يمكن أن تكون له تمظهرات أخرى تخص الموقف الذي تتخذه الذات من مهن الحاضر ومهن
الماضي ولما لا مهن المستقبل أيضا حتى وإن كانت غير معلومة في تفاصيلها الدقيقة .
وذلك لا يمكن نفيه بدليل ما نلاحظه حاليا عند الشبان والمحللين من استشراف لما
يمكن أن توفره التكنولوجيات الإتصالية الحديثة في مجال الإعلامية والإنترنيت والشبكات
من فرص مستقبلية يقع التهيؤ لها داخل المؤسسات الثانوية والجامعية ومراكز التكوين
المختلفة. وبهذا يبرز مقياس آخر يمكن أن نستشفه مما تقدم ولا يجب تجاهله أو عزله
بحال من الأحوال وهو ارتباط تمثل الإختصاصات والمهن أيضا بواقع سوق الشغل وبفرص
التشغيل المتاحة ومؤشرات البطالة المتداولة في هذا الاختصاص أو ذاك ، مما يجعل هذه
المهنة أكثر إيجابية من تلك بما يؤثر بعمق في صياغة المفاضلات بين هذه وتلك.
فالذات ، كما تتخذ
مؤشرات الراتب والترقيات المهنية والحركية والمكانة الاجتماعية ومختلف المكافآت
... الخ في رسم تمثل اختصاص ما ، فإنها قد تقدّم على كل ذلك ، في واقع صعوبات سوق الشغل الحالية ،
مؤشرات البطالة ومدى وفرة الفرص المتاحة أمام هذا الاختصاص أو ذاك . وهو ما نستشفه
من أسئلة التلاميذ والطلبة عن أفضل الإختصاصات عند تحديدهم لاختياراتهم الدراسية
في التعليم الثانوي والجامعي على حد سواء خلال عملية التوجيه التي يخضعون لها.
2 - التوجيه المدرسي بما هو تربية على الإختيار
يستعد
التلاميذ والطلبة إلى دخول عالم سريع التغير ، متتالي التقلبات ويستدعي التفكير
بسرعة وبانتباه شديد وحدس الفرص والإستفادة منها لذلك تتأكد الحاجة عندهم لتنمية
عديد المهارات لضمان نسب نجاح مستقبلي أرفع ، مثل : مهارة التفكير ، مهارة الحوار
، مهارة التواصل ، مهارة الإصغاء ، مهارة التعامل مع مستجدات العصر الرقمية
والإتصالية ، مهارة التعلم عبر الممارسة ... الخ . " ولكي يتعلم الطلاب مهارات القرن الحادي والعشرين هذه لا يمكن
أن يظلوا مراقبين سلبييّن وإنما يجب أن يواجهوا تحديات المواقف والمشكلات الحياتية
، ولابد أن يتعلموا العمل مع زملائهم بصورة تعاونية وأن يتواصلوا بشكل فعّال معهم
لكي يجدوا حلولاً مبتكرة (4) " .
ومن
المهارات المقصودة تبدو مهارة الإختيار في صدارة ما يجب تعلمه ، منذ المراحل
الدراسية الأولى وحتى قبل موعد التوجيه المدرسي ، لأن الإنسان ملزم في جميع مراحل
حياته بحسم عديد الإمكانيات والإختيارات وإتقان هذه المهارة من أجل التعامل بنجاح
مع عديد الوضعيات سواء في مستوى الدراسة أو الشغل أو العلاقات المختلفة أو الحياة الإجتماعية أو الزواج .... الخ .. فما هي التربية على الإختيار ؟ وما
أهميتها في مجال التوجيه المدرسي والجامعي ؟
التربية على
الإختيار هي فلسفة في تربية التلميذ وتوعيته وتدريبه تدخل في صميم الوظيفة السامية
للمؤسسة التربوية ، إذ أنها تعمل على توعيته وتأهيله لتحمل المسؤولية وللموازنة
بين الفرص المتاحة والإمكانيات المقترحة .
هي توعية بمسارات اتخاذ القرار وبالعناصر المكونة للواقع
وتفاعلاتها . توعية بضرورة التأليف بين مجموعة من العناصر المتكاملة منها الذاتي
ومنها المعرفي ومنها الإجتماعي . وبذلك فهي تمثل المرحلة الأساسية الممهدة للتوجيه
المدرسي والمعدة له ، لأن التوجيه اختيار وقرار يتخذهما التلميذ بعد تدريبه عليهما
في حملات إعلامية مكثفة وفي عملية توجيه تمهيدي تستوفي جميع المراحل الضرورية
للتهيئة لها .
التربية على الإختيار لا تنفصل عما يسميه البعض بالتربية
على التوجيه ، بل تتماهى بها وتهدف في جوهرها إلى الإعداد له وإنجاحه . كما تسعى
إلى ترشيد قرارات التلاميذ واختياراتهم ، لأن ما اعتادوا القيام به في الواقع يخالف ذلك ،
وطرق الكثيرين منهم في حسم هذه المسألة غير مرشّدة . فهم يختارون على أساس مقاييس
غير مقنعة ولا مبررة ، بل متضاربة مع جميع النصائح والتوصيات ، منها محاكاة
زملائهم وتبني اختياراتهم في اتفاقات جماعية يقبلون فيها معا على نفس الإختصاص ،
مرددين أنهم أتراب أو أقارب أو جيران يمكن أن يتعاونوا بفعل القرب أو القرابة . كما
أن البعض يختارون في إطار منافسات ، أحيانا متكافئة وأحيانا منخرمة ، مع هؤلاء
الأتراب قد تكون تاريخية أيضا ، ودون أن يدركوا أن المسارات هي دائما شخصية ومبنية
على أساس مؤهلات وإمكانيات ومشاريع .
وهنالك أيضا من يختار مرضاة لوليه واستسلاما لتوجيهاته
المتغذية من أحلام وأمنيات دفينة لم يجد الفرص المناسبة لتحقيقها في صباه . إذ أن
بعض الأولياء يلزمون أبناءهم بخيارات بناء على قراءات شخصية ، لظروف سوق الشغل
وواقع المهن فيه فيشيرون عليهم بالإختصاصات ذات المردودية المالية العالية أو
الوجاهة الإجتماعية ، وهي عادة الإختصاصات الطبية والهندسية . في حين أن الإختيار شخصي
يتخذه التلميذ بكل وعي وحرية وأريحية على أساس تشخيصه لمؤهلاته الذهنية وقدراته البدنية
وإمكانياته الإجتماعية ، وإدراك آفاق الإختصاصات في علاقة بما ذكر وفي علاقة بالفرص
التي يوفرها سوق الشغل . ولما كانت سوق الشغل متحولة ومتحركة باستمرار ، تظهر بها
اختصاصات وفرص جديدة وتنتهي وتغيب أخرى ، كان لا بد من توعية التلميذ بذلك حتى
يركز جهوده على تطوير مؤهلاته ويكون بمقدوره التأقلم مع هذه الحركية وحتى يكتسب من
الإمتياز ما يؤهله للفوز في كل المسابقات
التي تجري لأي انتداب كان سواء المعرفية منها أو المرتكزة على الملفات ومراجعة
النتائج السابقة .
والتربية على الإختيار تنبه التلميذ إلى كل هذه النقائص وإلى
مخاطرها على مستقبله وتدعوه للتوقي منها فتضمن بذلك ممهدات النجاح التام لعملية
التوجيه المدرسي التي يخضع لها .
الإختيار يعني الموازنة بين الممكنات ثم الحسم واتخاذ
القرار .... وهذا القرار يبنى بتدرج من مرحلة لأخرى : مثلا مرحلة جمع المعلومات من
مختلف مصادرها ، ثم فرزها والتعامل معها على أساس مقاييس بناءة ومقنعة ترتقي عن
جميع التأثيرات الذاتية ومعالجتها أو تبويبها ثم توظيفها وإدراجها في إطار تمشّ
كامل يعكس رؤية واضحة ومشروعا ثم إستغلالها وتوظيفها أو تخزينها كرصيد وكمراجع
تستثمر عند الحاجة ... الخ .
ويجب أن يتصف هذا الإختيار بالموضوعية والعقلانية حتى
يكون مقنعا لجميع الأطراف بما فيهم أعضاء مجلس التوجيه والولي والتلميذ ذاته بكل
ما يستدعيه ذلك من حجج مدعمة يسترشد بها ويستنير . وهذا يشترط أن تتوفر لدى
التلميذ :
- المعرفة
بالآفاق الجامعية والمهنية بكل عناصرها وشروطها وحيثياتها .
- النضج الفكري
المؤهل للموازنة بين الفرص والممكنات ودراستها بتعمق وتقييمها .
- الشخصية
المكتملة والقادرة على المفاضلة وحسم المسائل ، إضافة إلى قدرتها على التقييم الذاتي وتقدير الإمكانيات والمؤهلات
.
- الوعي بالحيثيات وبما يمكن أن يترتب عن أي اختيار :
استحضار العواقب واستشراف النتائج .
- التواصل مع الآخرين من المختصين والخبراء وذوي التجربة
لاستشارتهم والإستفادة منهم ومراجعة
اختياراته ومزيد تدقيقها معهم .
التربية على الإختيار بهذا ، هي مهمة أساسية من مهام
المؤسسة التربوية لا تقل أهمية عن التعلمات ، بل هي تكريس عملي وتطبيقي لعديد
المكتسبات والكفايات الأفقية التي غنمها التلميذ ووقعت تنشئته عليها . والمؤسسة
التربوية توظف لهذه التربية عديد الآليات والأشخاص وتخصص لها مساحات زمنية هامة منها
ما هو مقرر في التوزيعات الزمنية وبين ما هو مبثوث في مختلف التعلمات ، من ذلك :
أ – الحملات الإعلامية :
يمثل الإتصال بالتلاميذ واحدا من الآليات الضامنة لتربية
سليمة على الإختيار . والمقصود بذلك الحملات الإعلامية والتظاهرات ومختلف المقابلات
الفردية والإجراءات والعروض التي توظف في عملية التوجيه المدرسي . بل يمكن أن نؤكد
أن قيمة التوجيه المدرسي تكمن أساسا في نوعية هذه الأنشطة التي تؤسس للتربية على
الإختيار ، هذا الذي يبنى على مجموعة من الأسس والقوائم التي أسميناها هنا الآليات
ولا يتخذ اعتباطيا عبر التأثر بما يروج في عديد الفضاءات من آراء ذاتية وانطباعات
سطحية أو تجارب شخصية تعني أصحابها فقط .
ب – التعلمات :
إعتمادا على ما للتربية على الإختيار من قيمة ومن أهمية
قصوى تستدعي الإعداد الجيد والتعمق والإثراء تتأكد الحاجة إلى العمل بالتعلمات
الإختيارية في المستويات الدراسية الدنيا أي الإعدادية لتعويد التلاميذ على العمل
بالمشروع والتعلم عبر الممارسة . كما يستدعي تحقيق هذه الأهداف إدراج مواد ضمن
التعلمات العادية ، مثل شرح نصوص خاصة وبرمجة حوارات ونقاشات شفوية ، وانتاج كتابي
في المواد الأدبية والإجتماعية . وبالإمكان أيضا تخصيص محور في مادة التربية
المدنية عن الحياة المدرسية يعنى بمسائل التربية على النجاح عبر التخطيط والبرمجة
، إستشراف المستقبل ، بناء المشروع بمختلف تمظهراته ، التقييم الذاتي ، إدارة
الوقت وتوظيف الأنشطة التربوية المختلفة من أجل ذلك ، ... الخ .
ج – التنشيط :
في إطار تنشيط الحياة المدرسية وتوجيه النوادي لدعم
الأهداف التربوية ، يكون من المفيد بعث نواد للتوجيه والتربية على الإختيار تنشط
بشكل دوري وتبرمج التظاهرات والندوات المهتمة بهذه التربية وما تستدعيه من كفايات
أفقية .
كما يمكن أن يتجه التنشيط إلى تنظيم معارض وندوات يخطط
لها التلاميذ ويستدعون لها المختصين في إطار مشاريع جماعية ، وكذلك تنظيم زيارات
دراسية وبحوث علمية وغيرها من الأنشطة الداعمة ....يضاف إلى ذلك الحرص على المشاركة
في معارض خارجية مختصة يخطط لها وينجزها التلاميذ أيضا .
وهكذا تنحسر المسافة بين التوجيه والتربية على
الإختيار وتمحي الفواصل لأن التوجيه باختصار شديد هو مساعدة ومرافقة وتربية
للتلميذ على كل ما ذكر أي على حسن الإختيار .
د – المقابلات الفردية :
ونعني بذلك اللقاءات المباشرة التي تتمّ
بين التلاميذ ومستشار التوجيه بالمعهد أو بمكتب خلية التوجيه المدرسي والجامعي
بمندوبية التربية . وهي تتم استجابة لطلب التلميذ الذي يستشعر في نفسه حاجة
للإتصال مباشرة بمختص في التوجيه المدرسي ليستوضحه عن المسائل التي تشغله ولم يظفر
لها بإجابة شافية سواء تعلقت بالشعب والمسالك أو بذاته ورغباته وبتمثلاته عن مسائل
تخص توجيهه أو بحسم اختياره والخروج من دائرة التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار
.
وعادة ما يتهيؤ مستشار التوجيه لهذه
المقابلات ويستعد لها ذهنيا وماديا حارصا على لياقة الفضاء المحتضن وعلى توفر
المراجع والوثائق والمدعمات الكفيلة بتوضيح معضلات التلميذ والإجابة عن أسئلته . كما
يتبع خلالها تقنيات ومسالك تراعي حالة التلميذ واحتياجاته النفسية والمعرفية .
ويمكن أن يستعين خلالها ببعض الروائز والقياسات المعدة للغرض . لذلك تعدّ هذه
المقابلات الفردية من التقنيات الحساسة والدقيقة جدا التي يجب التدرب عليها جيدا
وإتقانها وكذلك عدم الخروج بها عن أهدافها ومراميها . وفائدتها كبيرة جدا في علو
التوجيه والإرشاد وفي حسم معضلات المسترشدين التي لا يستطيعون التعبير عنها خلال
حصص التوجيه الجماعي .
3 - التوجيه المدرسي ... بما هو تربية على المشروع
" المشروع سلوك إستباقي يفترض
إمكانية تمثّل غير الآني وكذلك القدرة على تخيّل الزمن المستقبلي عبر بناء مجموعة
من الأفعال المتلاحقة ومن الأحداث الكامنة " (5) وهو بهذا المعنى رؤية أو بناء فكري
يستحضر المستقبل ، يرسمـه ، يخطّـط له ويستجـلي معــالمه ، يبرمـج لهـا ويوجّهها
محاولا التحكم فيها قبل أن تفاجأه ، لذلك هو إستباق للزمن ، أو بلغه الفلاسفة هو
" فعل بالقوة يمثل للوعي بإستباق " (6) وهو بهذا المعنى يكتسي طابعا
برغماتيا عمليا تتجسّد فيه برمجة الأفعال التي يرجى إنجازها فيكتسي بذلك طابع
" منهجيّة متكاملة لإستغلال الفرص " (7) ويكون المشروع فرديّا خاصّا ، ولو إجرائيا
فقط يختزل طموحات التلميذ وأهدافه كما يكون جماعيا يرسم طموحات وأهداف المجتمع ككل
، وفي كلتا الحالتين هو وليد حوار بناء وتفاوض هادف وواقعي بين عديد العناصر والأطراف
. المشروع الشخصي يتفرّع إلى ثلاث :
1- مشروع عمل
أو تحرك على مدى قصير ، ويقابله المشروع الدراسي .
2- مشروع على
المدى الطويل خاص بفترة من العمر أكثر تقدّما ، وهو مشروع إندماج إجتماعي . ولما
كان هذا الأخير يمرّ حتما عبر النشاط والعمل والمشاركة الإجتماعية حتى يتيسّر قبول
الفرد داخل المجموعة ، فسيكون بالتأكيد مشروعا مهنيا .
كما يلاحظ
الباحثون أنّ عملية تكيّف الشبان يتحدّد شكلها من خلال
صيغة الربط التي سيقع إعتمادها بين المشروع الدراسي والمشروع المهني ، والتي يمكن
أن تكون رضا أو صراعا أو هروبا أو لا مبالاة .
3- إلى هذين
المستويين من المشروع يضيف رودريقاز تومي Rodriguez Tomé
ثالثا أكثر شمولية وأسماه المشروع الحياتي ، وهو متجذّر في أعماق شخصية الفرد .
وبذلك تتهيكل مستويات المشروع وتنحصر في ثلاث : المشروع الدراسي ، المشروع المهني
، والمشروع الحياتي (8) . وما يشد
إهتمامنا أن المشروع في مختلف تمظهراته وثيق الإرتباط بالتوجيه المدرسي الذي يمثل
المنطلق في بنائه وحجر الأساس له .
لذلك غزت
فكرة المشروع كل المجال المدرسي منذ سبعينات القرن الماضي وأصبح من المحبذ لكل
تلميذ ، بل من شروط نجاحه أن يرسم لنفسه مشروعا دراسيّا يربط ماضيه بحاضره وبمستقبله
أي يستعيد فيه مساره ، يبني عليه ويتعظ به ، ويقيم خلاله إمكانياته الحالية وما
تخوّله له من إختيارات . ومن خلال هذه العناصر جميعا يكون بإمكانه تحديد أهدافه
ورسم الملامح العامة لمستقبله ولنوعية حياته المقبلة . بذلك يكون المشروع الدراسي
سفرا في الزمن أهم محطّه له بإطلاق هي محطة التوجيه الـدّراسي التي يتمّ خلالها
الربط بين كل الأخريات ؛ ويضمن التوفيق خلالها الجــزء الأوفــر مــن حظوظ نجاح المشروعين الآخرين ، أي
المهني والحياتي . وبهذا فإن مسؤولية صياغة المشروع الدّراسي للتلميذ وكذلك
متابعته وإسناده لضمان نجاحه ، تكبر هي الأخرى وتصبح أكثر إحراجا . إنّها أوّلا
مسؤولية التلميذ الذي عليه أن يتخذ سلسلة من القرارات الخاصّة بمستقبله وأن يمتلك
مشروعا متكاملا بكلّ مستوياته يكون له المرجع والهدف والحافز الذي يدفعه باستمرار
إلى الأفضل وأن يصوغه بكل موضوعية وبوعي عميق بذاته بعيدا عن التخيّلات المثالية
وعن المستحيل . وهو ما يستدعيه إلى إدراك حقيقة إمكانياته والكشف الدقيق عن واقع
قدراته الجسدية والفكرية والنفسية للتنبؤ بما يمكن أن تخوّله له وأن تمكنه من
بلوغه ، حتى يدرك منذ البداية إن كان هذا المشروع قابلا للإنجاز والتجسيم أم لا .
غير أن عملية
إنضاج المشروع الدراسي وهيكلته واكتماله لا يتحمّل وزرها التلميذ بمفرده ، بل يمثل
ذلك " رهانا يجب أن تتجنّد له عديد الأطراف : المراهق ، الولي ، المربّي ، مستشار
التوجيه وبشكل عام كل شخص يمكن أن يكون مثريا له . وتكون المفارقة هنا أن المشروع
الفردي ليس فرديا بالمعنى الذي يمكن أن توحي به المفردات " (9) إذ للوسط تأثير متأكد أقله " أن
التلميذ الموجود في وسط يسير أو يعمل وفق مشاريع فإنّه سيتبنّى هذه الطريقة في
السلوك " (10) من تلقاء
نفسه ويكون دور الكبار هو المساعدة والمشورة والعون على تجاوز حالات التردد ، لكن
دون أن يتحوّل ذلك إلى الإختيار عوضا عن التلميذ أو إلى إملاء إختيارات معاكسة
لرغبته وغير متماشية مع إمكانياته كما يعمد إلى ذلك بعض الأولياء الذين يرون في
توجيه أبنائهم فرصة قد تؤدي إلى تحقيق حلم شخصي طالما راودهم ، غير واعين أن ذلك
قد يؤول بأبنائهم إلى الفشل . إن المطلوب هو توفير إطار يكون فيه التلميذ فاعلا ،
واعيا بحقيقة وضعه ، قادرا على تحديد إختياراته إنطلاقا من إعلام يمكنه من تطوير
أفكاره ، ومن تصحيح أخطائه ومن المرور بأكبر سرعة ممكنة إلى الإستشراف وإلى
المشروع ... الذي عليه أن يأخذ بعين الإعتبار الأهداف التي تتبنّاها وتسعى من
أجلها المجموعة بأسرها . والمطلوب كذلك هو الإعتناء بالقدرات والإنتظارات الحالية
للشاب . وهذه القاعدة تنطبق على المعلومات حول المهن والدروس أو الشهائد التي
تمكّن من الظّفر بها " (11) .
وبهذه
الكيفية يحصل التفاعل الإيجابي بين الطموح الشخصي الذي يتهيكل في مشروع دقيق
التخطيط وبين ما يوفره المحيط من ثراء ومن حوافز فيكون التوافق بين ما وقع التخطيط
له وما وقع إنجازه أو ما ينتظر إنجازه مستقبلا وهو ما يعني نجاح المشروع ، ونجاح
الإستراتيجيات التي وقع ضبطها لتحقيق الأهداف المرسومة .
غير أن
الإشكال يكمن في كون الفترة التي يطالب فيها الشاب بتكوين مشروعه الشخصي ليست هي
الأمثل بما أنّها تتزامن وفترة المراهقة التي تتخلّلها أيضا مرحلة تكوين الهويّة
والوعي بالجسد إضافة إلى مراجعة أشكال العلاقة مع الآخرين ، فيتشتت بذلك إهتمام
الشاب وكثيرا ما يعسر عليه التركيز وإدراك حقيقة إمكانياته وتحديد إهتماماته بدقّة
وبشكل نهائي . إنه في هذه الفترة يحيا مشروعه بشكل مثالي ومستعجل ويسعى إلى
الإنجاز المباشر والسريع وليس إلى إنضاج المشروع " (12) . وهذا ما يزيد من مسؤولية المحيطين بالتلميذ
والمرافقين له .
4 – التوجيه المدرسي ... مسؤولية مشتركة :
لا
تمثل مسألة التوجيه في مرحلتيه المدرسية والجامعية مشغلة المؤسسة التربوية فقط ،
بل هي مسؤولية عديد الأطراف الأخرى من الأسرة إلى المدرسين فالمؤسسات الجامعية والمؤسسات
الإقتصادية المشغلة التي تنتدب عملتها وإطاراتها ومسيريها من بين خريجي المؤسسات
التكوينية في مختلف المستويات . لذلك يتم التنسيق مع جميع هؤلاء وتشملهم مختلف
الأنشطة الإعلامية المهتمة بالتوجيه المدرسي .
أ
- دور الأسرة والولي
يعقد
مستشارو التوجيه الإجتماعات التحسيسية بالأولياء عديد المرات خلال سنوات التوجيه
المدرسي في معاهدهم يطلعونهم على مختلف الإجراءات المتبعة ثم يتقاسمون معهم
الأدوار الضامنة لإنجاح العملية . فمرافقة التلميذ تقتضي أن نكون معه في كل
المواضع من المنزل إلى المعهد مرورا بالمؤسسات الثقافية والشبابية المختلفة . ولا
يقتصر الولي على إمضاء بطاقة الرغبات والتصديق عليها بل هو مطالب قبل ذلك بالتشاور
مع منظوره والحديث معه في كل الجوانب التي تهم العملية إنطلاقا من مساعدته على كشف
ميوله ومؤهلاته ونوعية إستعداداته الذهنية والبدنية .
فالولي
المنتبه إلى نمو ابنه منذ نشأته الأولى قادر على تشخيص درجة ذكائه وسرعة بديهته
وحدة ذاكرته سواء بالإنتباه إلى مدى قدرته على استرجاع الأحداث الماضية والتوصيات
المسدات له ، أو بمتابعة كيفية استذكار ابنه لدروسه وما يقضيه من وقت في حفظها
واستيعابها . كما يمكن للأب أن ينتبه إلى طريقة تفكير ابنه ومنهجيتها ومدى
التزامها بالتمشيات المنطقية المتسلسلة . ويكشف أيضا ميولاته الفكرية بالإنتباه
إلى نوعية الأنشطة التي يقبل عليها ومدى تعقيدها ونوعيتها إن كانت مطالعة مثلا
ورغبة في الإطلاع على الثقافات والحضارات وولعا باللغات أو إقبالا على الأنشطة
الخبرية واليدوية أو الفنية والجمالية . فالتلميذ المولع بالمطالعة وبمتابعة
الأحداث الثقافية والتاريخية والمقبل على إقتناء المراجع والكتب والمجلات ، يكتسب
ثقافة مهمة ومنهجية سلسة ولغة سليمة بما يمكنه من النجاح بسهولة في الإختصاصات
الأدبية والإنسانية .
أما
التلميذ ذو الذاكرة الحادة التي تسعفه باسترجاع المعلومات بسرعة ويحفظ الدروس دون
عناء ، فيمكنه النجاح الميسر في الإختصاصات الطبية وشبه الطبية التي تستدعي هذه
المؤهلات وتجعل الطبيب أو المختص الصحي يشخص الأعراض ويستحضر الأدوية والمستلزمات
العلاجية حينيا ودون وقت طويل لا يحتمله المريض . أما الولي الذي يلاحظ رغبة إبنه
في الإطلاع على كيفية اشتغال المكنات والآلات الميكانيكية والإلكترونية الموجودة
بالمنزل واهتمامه بالتكنولوجيا الحديثة والمخترعات يسأل عن هذه ، ويفكك تلك ويعيد
تركيب وتشغيل أخرى بعد كشف أعطابها وإصلاحها ، ويستهويه بالتالي النشاط اليدوي
ويسعى إلى إمتلاك مهارات تقنية .... فإن ذلك كاف ليجعله يلفت انتباهه إلى أن نجاحه
سيكون ميسرا في الإختصاصات الهندسية والتكنولوجية بأنواعها .
في
حين أن التلميذ المهتم بالمحيط الطبيعي ، المحب للعلوم الطبيعية ، الشغوف بالتجارب
والتطبيقات المخبرية ، فإن توجهه العلمي واضح . بينما الإهتمام بالرياضيات
وبالعلوم الفيزيائية والقدرة على التحليل المنطقي وعلى التفكير المجرد ، فإن له
توجه علمي آخر يناسبه ويفتح له مجالات رياضية وبحثية وهندسية متنوعة إضافة إلى
المحاسبة والتصرف .
"
من الأكيد أيضا وجود تناسب كبير بين التوجيه والمهنة والوضع الصحي والقدرات
البدنية . فبعض المهن تحول دون النجاح فيها الإعاقات والقدرات الجسدية المحدودة
نظرا لطبيعتها التقنية التي يسترسل بسببها العمل ليلا نهارا ، ولكونها أعمال
ميدانية تستدعي الوقوف والحركة والتنقل وبذل الجهد البدني للإنتاج والسهر أو العمل
الليلي للمتابعة والصيانة .... الخ . وهذا حال الإختصاصات التقنية والهندسية مثلا
. وعديد الأعمال الأخرى كذلك تجري في المخابر وفي قاعات العمليات الجراحية
والتضميد لا يتحملها من يشكو حساسية تجاه الروائح الحادة المنبثقة من الأخلاط
والمواد الكيميائية ، كما لا يقدر عليها من لا يتحمل معايشة آلام عمليات التشريح
والجراحة . وهذا يعني أنه لا يكفي التميز الدراسي وحده بل لابد أن نضمن نجاح بقية
الحلقات المرتبطة به في عالم الشغل "(13). وهنا يكون أيضا حسن الإختيار الذي يبنى على العمل
بالنصائح الوجيهة للولي وعلى قيمة المرافقة التي يلقاها التلميذ من جميع الأطراف .
ب
– دور الأستاذ
يمثل الأستاذ من ضمن جميع المحيطين بالتلميذ الفاعل
الأكثر قربا منه وتأثيرا فيه بفعل تواتر إلتقائه به على مدى السنة الدراسية
وانفتاح مجالات الحوار والنقاش بينهما . وهو أول من يقدر على توفير الرعاية له
وإفادته في المسائل التي تتصل بالتوجيه المدرسي وبالسبل القويمة للإختيار ولاتخاذ
القرار والتعرف على الإختصاصات ومميزاتها وشروط النجاح فيها . سواء كان هو نفسه الأستاذ المدرس أو أستاذ
القسم أو الأستاذ المكلف بالتوجيه .
ونؤكد
مجددا أنه نظرا للصبغة التربوية للتوجيه المدرسي والتي لا تقل قيمة عن بقية الدروس
المقررة ، فإن الأساتذة هم من يلعب فيه الدور الرئيسي إذ يقررون في مجلس التوجيه
المسلك أو الشعبة التي يستحسن لأي تلميذ أن يلتحق بها .
فالأستاذ
يلتقي بالتلميذ على مدى الحصص المبرمجة لاختصاصه طيلة الأسبوع والتي يمكن أن يكون
توزيع البعض منها يوميا . وهذا ما يجعله الأكثر معرفة به والأكثر إنتباها إلى حقيقة
إمكانياته وسعتها وقدرته على الإستيعاب وحدة ذاكرته ومدى استعداده للحفظ
والإستذكار مثلا . ويكون بالتالي تقييمه أفضل ومساعدته للتلميذ أجدى . كما يضع
الأستاذ نفسه على ذمة تلاميذه الذين يمكن أن يتوجهوا إليه بالسؤال والإستفسار عن
الإختصاصات وآفاقها الجامعية والتشغيلية وعن موادها المميزة وضواربها وشروط النجاح
فيها . فهو قدوتهم ومرجعهم المباشر ومحل ثقتهم ، بل كثيرا ما يكون بعضهم متأثرا به
راغبا في السير على خطاه والإقتداء به في كثير من الأفكار والإختيارات . والتوجيه
المدرسي تقل مراجعه وتشح مستنداته بالأسواق والمكتبات ، ويبقى التلميذ في أغلب
الأحيان معولا فقط على ما يمده به مختصو التوجيه في حملاتهم الإعلامية من وثائق
ومعلومات ، وما يستقيه من أساتذته ومن بعض المصادر الرقمية الأخرى أو ما تورده بعض
وسائل الإعلام على ندرته . وهذا الوضع يجعل مسؤولية الأستاذ أكثر جسامة وإحراجا ،
لذلك هو مطالب بالإستعداد لها بكل جدية على المستوى المعرفي والبيداغوجي والتواصلي
والتوثيقي . وفي أسوأ الحالات لابد أن يكون ملما على الأقل بتفاصيل اختصاصه الشخصي
وبمجاله وتقاطعاته ، ثم بالمراجع التي يمكن أن يلقى عندها التلميذ حاجته بالنسبة
لبقية الإختصاصات . وهنا لابد أن يكون الأستاذ على اتصال بزميله المكلف بالتوجيه
بالمعهد وبمستشار التوجيه المشرف على العملية وبخلية التوجيه بالمندوبية ومطلع على
اشتغالها أي على بينة بالمصادر المختلفة التي يمكن أن يحيل إليها التلاميذ
المتقدمين له بالسؤال . كما يتعين على الأستاذ أن يكون عارفا أيضا بالمراجع
الورقية والرقمية المتداولة ومطلعا عليها . فإلمام الأستاذ بكل هذه المصادر
ومعرفته بالمطلوب للمسألة وتخصيصه وقتا للإصغاء لمشاغل تلاميذه ومحاورتهم فيها
والإجابة عن استفساراتهم يزيده إكبارا وإجلالا عندهم وييسر تواصله معهم .
أما
تواصليا فيمكن أن نتحدث هنا عن بيداغوجيا التوجيه المدرسي التي يتعين على الأستاذ
اتقانها والتشبع بها بنفس الدرجة التي يتقن بها التدريس وتبليغ المعلومات للتلاميذ
. كما أن الأستاذ مدعو إلى الإنتباه إلى خصوصيات تلاميذه واحدا واحدا منذ بداية
السنة يعرف المستوى العلمي الحقيقي لكل منهم ويقيم مردوده بشكل موضوعي ويعلم وضعه
الصحي وقدراته البدنية إن كانت تمنعه من الإلتحاق ببعض الإختصاصات المحددة .
"
فتقييم التلميذ يكون شاملا لإمكانياته البدنية ومؤهلاته الذهنية وقدراته
الإجتماعية ، ولا يكون الإرتكاز في التقييم على العدد فقط وعلى مجموع النقاط التي
حصلها ، بل لابد من متابعة شخصية التلميذ بجميع العناصر الأخرى مثل الذاكرة ،
الطاقة الذهنية ، القدرة على الحفظ ، إمتلاك المنهجية ، القدرة على التأقلم مع
مستلزمات الإختصاصات جامعيا ومهنيا ، الأنشطة الإضافية التي يقبل عليها التلميذ
داخل النوادي المدرسية وفي الحياة العامة والإهتمامات الشخصية لأنها توضح أولاعه
واهتماماته التي قد تغيب أو لا تظهر جلية خلال حصص الدرس المقررة . وفي هذا تتساوى
المواد والحصص . بل لابد من تحسيس التلميذ بقيمة جميع المواد لبناء الشخصية وشحذ
العزيمة والتمتع بتكوين شامل متساند البناء حتى لا يكون التركيز عند التلميذ على
المواد المميزة للإختصاص المرغوب فيه فقط وإهمال البقية " (14).
كما
أن دروس التربية مثلا ، المدنية منها والدينية ، دالة على حدة الذاكرة ومدى تحفزها
للحفظ والإستذكار بنفس قيمة دروس علوم الحياة والأرض مثلا . والتربية البدنية دالة
على قوة العزم والإستعداد للتحمل وعلى الإصرار على الفوز والتفوق وتطوير المردود
الشخصي والإستعداد للذهاب بعيدا في الإختصاص . أما التربية الفنية والجمالية فجيدة
لتهذيب الذوق والإرتقاء به والتجهز للفوز في مناظرات القبول والتخصص ... الخ .
ومهم
جدا أن يدرك التلميذ ، عبر أساتذته ، أن الدراسة والإجتهاد ليسا لتحصيل الأعداد
فقط بل لتكوين الشخصية أيضا وبنائها بشكل متوازن . فالتوجيه المدرسي يجب أن يتخذه
المسؤولون ، مدخلا لشحذ عزيمة التلميذ والتأثير في تحفزه النفسي وفي صقل شخصيته ومواهبه
. ويدفعونه من خلاله للإستعداد الجيد إلى ربح المنافسات باعتبار التوجيه المدرسي
تناظر يحتد فيها التنافس أحيانا وتستدعي تحصيل أفضل الأعداد والمعدلات وتطوير
الإمكانيات ومزيد البذل والتركيز الدائم . ويجب أن يتنزل التوجيه المدرسي كذلك في
إطار الإستعداد المبكّر للباكالوريا وللتوجيه الجامعي المفضي إلى الحياة المهنية
والإجتماعية . وبهذا ندخل بحق مجال التربية على التوجيه ، وهو ما يجب أن يتقنه
الأستاذ الذي عليه أن يركز جهده على تطوير إمكانيات التلميذ والتحقق من مؤهلاته
وبنائه الذهني الصلب والشمولي . ولابد أن يحذر الأستاذ خاصة التهويل والإحباط
وإشعار التلميذ بالعجز وبالمحدودية . كذلك من غير المسموح به للأستاذ نقل مواقفه
وتقييماته الذاتية الخاصة باختصاصه الشخصي للتلميذ ، أي لا يجب أن يتحول التوجيه
المدرسي ، سواء بالقسم أو بالمجلس ، إلى فرصة لانتداب التلاميذ المتميزين نحو
الإختصاص الخاص والقيام بالدعاية له بين التلاميذ . وهذا يعني أن يتحلى الأستاذ
بالموضوعية في القول وبالحياد إزاء الشعب والإختصاصات ، يساعد التلميذ على حسن
الإختيار وليس يختار بدلا عنه . وليس من حقه كذلك أن يستنقص من أي اختصاص أو أن
يستهزأ به .... فالأستاذ يؤثر كما أسلفنا وبشكل كبير في تحديد التلميذ لاختياره ،
ويمكن أن يكون ذلك لا شعوريا وبشكل غير مقصود . فليكن هذا التأثير من المنفذ
الأسلم والمفيد للتلميذ والمحترم لشخصيته
واختياراته . أي من جهة توضيح الشروط والخصوصيات والآفاق والمساعدة على كشف
المؤهلات والميول ومزيد معرفة الذات وبناء التمثلات الصحيحة ، وليس من جهة المدح
والثناء لاختصاص على حساب آخر والترغيب المضمر فيه والشبيه بالإنتداب . وبذلك نصل
إلى تهذيب التوجيه وترشيده عبر بيداغوجيا التربية على التوجيه التي تربط بين
الإختيار الذي يبنى بالتدرج شيئا فشيئا وبين الإمكانيات والمؤهلات والميول
والقدرات الفعلية الضامنة للنجاح . إذ لا وجود لاختصاص جيد في المطلق ، بل في
علاقة دائما بهذه العناصر المذكورة .
ج
– دور مجلس التوجيه :
يرتبط
ما قلناه عن الأستاذ في جزء منه بما يجري في مجلس التوجيه الذي يجمع جميع
الأساتذة المدرّسين للقسم إلزاميا ودون إستثناء . يجتمعون برئاسة مدير المعهد
لتوزيع التلاميذ على مختلف المسالك الدراسية ويسندون لكل منهم اختصاصا يستجيب
لرغبته التي سجّلها على بطاقة التوجيه ويتماشى ومؤهلاته الدراسية وقدراته الذهنية
والبدنية . وهنا تبرز قيمة العمل التربوي للأستاذ ويكون التقييم الذي أوجده عن كل
تلميذ حاسما في تزكية رغبته من عدمها وفي إنجاح أشغال المجلس عامة . المؤهلات
الدراسية تعكسها الأعداد والمعدّلات التي حصّلها التلميذ طوال السنة ، ويمكن في
هذه الحالة الإستئناس بسجلاته في السنوات السابقة حتى تكتمل الفكرة عنها ، أما
القدرات الذهنية والبدنية ومجمل مؤهلاته الأخرى فيعود حصرها وإجلاؤها إلى مسار
التقييم الشامل الذي بناه الأساتذة خلال السنة عبر متابعتهم له وحواراتهم معه
وإصغائهم إليه في مناسبات عديدة تتيحها سيرورة السنة الدراسية . ولئن كانت رغبة
التلميذ هي الفضلى فبإمكان مجلس التوجيه تعديلها إن كانت غير متماشية مع مؤهلاته
ولا تضمن له نجاحا دراسيا مستقبليا مؤكدا .
ويعقد
مجلس التوجيه على مرحلتين : الأولى تمهيدية ، قبل نهاية السنة الدراسية بناء على
نتائج التلميذ خلال الثلاثيين الأول والثاني ، أما التوجيه النهائي فيكون آخر
السنة بعد الإمتحانات النهائية التي يجري في ضوئها تأكيد التوجيه الأولي المقترح
أو تعديله . ومع ذلك تبقى الفرصة مفتوحة دائما أمام التلميذ ووليه إمكانية تغيير
هذا التوجيه في دورة إعادة التوجيه إن أقنعا بمبررات هذا الطلب واستوفيا جميع
شروطه .
د
– دور مستشار التوجيه :
يمثل
مستشار التوجيه ، من ضمن جميع هؤلاء المتدخلين ، الطرف الوحيد المختص والمؤهّل
علميا لإنجاز مختلف أنشطة التوجيه المدرسي والجامعي . فهو الخبير بالتربية على
التوجيه ومرجع الجميع ودليلهم . يشرف على تسيير الحملات الإعلامية ويهيؤ وثائقها
ومدعماتها ويضبط مواعيدها مع المسؤولين ، ويتولى تأطير المتدخلين فيها من الأساتذة
والمشرفين . كما يلتقي الأولياء في عديد المناسبات لتوعيتهم بأدوارهم الفعلية
وبحدود تدخلهم ومجالات مساهماتهم في تأطير أبنائهم ولفت نظرهم لأقوم السبل التي
تكفل لهم توجيها ناجحا . كما يلتقي مستشار التوجيه التلاميذ بمختلف مستوياتهم في
مناسبات متتالية على مدى السنة ، ويربط قنوات التواصل معهم ويبقيها مفتوحة لتتوفر
لهم منافذ التعبير عن صعوباتهم ومشاكلهم دون حرج أو تردد . فعملية التوجيه متشعبة
، مسترسلة ، ومتعددة الأطراف بما يجعلها في حاجة لمؤطّر على دراية تامة بها
وبحيثياتها ، يديرها ويتابع سيرورتها حتى يكون نجاحها مضمونا . وذلك هو مستشار
التوجيه الذي يتلقى أيضا إعتراضات التلاميذ على توجيههم التمهيدي ويصغي إلى
مبرراتهم ويحاورهم فيها ، ثم يرفع فيها اقتراحاته المعللة لمجلس التوجيه النهائي .
كما يتلقى مطالبهم بإعادة التوجيه خلال العطلة الصيفية وينظر فيها ويسجل عليها
ملاحظاته ليقع إعتمادها في مجلس إعادة التوجيه الذي يعقد قبل العودة المدرسية .
وإلى
جانب ذلك يُعدّ مستشار التوجيه البحوث والتقارير التربوية المشفوعة باقتراحاته
وتوصياته للهياكل العليا المسؤولة بوزارة التربية حتى تتخذ ما يستوجب لتطوير عملية
التوجيه المدرسي والتقليل من صعوباتها ومشاكلها . ويواكب الملتقيات التقييمية
والإعلامية والتكوينية المعدة في الغرض . هذا إلى جانب عديد المهام الأخرى المناطة
بعهدة مستشاري التوجيه والتي يضبطها قانونهم الأساسي بما يجعل من هذا السلك مكسبا
هاما للمنظومة التربوية وإضافة معتبرة لها .
الخاتمة :
بهذا
تتضح خصوصيات التوجيه المدرسي الذي يمثل ضربا تربويا خصوصيا يتميز بغاياته السامية
وآلياته السليمة ومحتواه الثري عن ضروب التربية الأخرى المدرجة بالمقررات المدرسية
، كالتربية المدنية والدينية والتشكيلية والموسيقية والفنية والبدنية .... الخ .
بل هو يوظف هذه جميعا للتوعية والتأطير وفتح الآفاق أمام التلاميذ للتخصص في أي
منها ، وتوظيفها لهيكلة مشروعه المستقبلي ورسم زوايا من معالمه متى تعلق بها
واقتنع بجدواها وأدرجها ضمن اختياراته .
التوجيه
المدرسي تربية على الإختيار بالأساس ، توحد الجهود ، توظف الإمكانيات والقدرات ،
ترتقي بالمؤهلات وتدعمها ، تستثير الأمل والطموح ، ترسم المعالم والآفاق وتستشرف
المستقبل لتبني المشروع الخاص بجهد الجميع وبخبرتهم ومرافقتهم . لذلك التوجيه
المدرسي تربية مميزة ، تحترم رؤية التلميذ ، تنعش حريته وتدعم السمات الإيجابية
بشخصيته وتحرص على بنائها السليم . وهو أيضا تربية منفتحة على كثير من المجالات
مثل التعليم العالي والتكوين المهني وسوق الشغل والمهن الجديدة بكل تفاعلاتها
وتوظّف عديد المقاربات العلمية الخاصة بالشخصية وبنائها وتفاعلاتها مع عناصر
محيطها جميعا .
المراجع :
1 - HUTEAU Michel:
les mécanismes psychologiques de l'évolution des attitudes et des préférences
vis à vis des activités professionnelles OSP N° 2 1982 p 108
2 -d'après
Jean GUICHARD : L'école et les représentations d'avenir des adolescents. éd.
PUF, Paris 1993 p123
3 -
نفس المرجع السابق ص 109
http://www.abegs.org/aportal/article/article_detail.html?id=5487498876682240 -4
5 - Dictionnaire
Encyclopédique de l’éducation et de la formation ;éd.Nathan 199 p:802 article :
Projet , Françoise Cros
6 - Odile Carré : Groupes et Processus d’orientation ; O.S.P N°2 1991 - p:
193
7 - Jean Pierre
Boutinet : Anthropologie du Projet - 3ème éd. PUF 1993 p: 233
8 - J.P.
Boutinot مرجع سابق ص 91
9 -Dictionnaire
Encyclopédique de l’éducation et de la formation ;éd.Nathan 1994 p:802 article
: Projet de André Philippe p:809
10-Richard Etienne : Projet individuel de l’élève in
dictionnaire de psychologie , Larousse 1994 p: 372
11 - المرجع السابق
12 - Odile Carré مرجع سابق ص 186
13 – محمد
رحومة العزّي ، التوجيه المدرسي مسارات وآليات ، ص79 ، الدار للنشر والتوزيع ، مصر
2021 .
14 – نفس
المرجع السابق ، ص86 .
محمد
رحومة العزي
مستشار عام التوجيه المدرسي والجامعي
قابس – مارس 2017
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire