vendredi 27 février 2015

رهانات الإصلاح التربوي الجديد ( 2002 )


قراءة في

 القانون التوجيهي للتربية والتعليم

عدد 80 / 2002


تخطيط البحث
1 – الإشكالية .............................................................................. ص 2
2 – الفرضية .............................................................................. .ص 3
3 – تحديد المفاهيم المستعملة في البحث :
أ – مفهوم الإصلاح التربوي  .................................................. ص 4
ب – مفهوم الحداثة ............................................................... ص 5
ج – مفهوم مجتمع المعرفة ...................................................... ص 5
د – مفهوم السلوك الحضاري ................................................... ص 6
4 – التقديم المادي لهذا القانون .......................................................... ص 7
5 – مرجعيات هذا القانون ومبرراته .................................................. ص 9
6 – مراحل إعداد هذا القانون .......................................................... ص 14
7 – رهانات اليقضة التربوية
أ – القانون التربوي ومدرسة الغد ............................................ ص 17
ب – القانون التربوي ورهان الحداثة ........................................ ص 19
ج – القانون التربوي ومجتمع المعرفة ...................................... ص 21
د – القانون التربوي ورهان السلوك الحضاري ........................... ص 22
8 – مسؤوليات الإصلاح التربوي
1 – دور التلميذ ومكانته في هذا الإصلاح ................................. ص 26
2 – دور الإطار التربوي في تطبيق الإصلاح وإنجاحه ................. ص 27
3 – دور الأولياء ............................................................... ص 27 
4 – دور المنظمات والجمعيات .............................................. ص 28
9 – الخاتمة .............................................................................. ص 29
1 – الإشكالية :
إن التطورات التي يعيشها العالم اليوم والتغيرات العميقة التي تمس بناه الفكرية والمعرفية والثقافية والإقتصادية ، لا يمكن أن تمر دون أن تترك بصماتها على المسيرة التربوية التي يعيشها أي بلد يريد لنفسه مواكبة سيرورة هذه التحولات ، مستفيدا من ايجابياتها وفوائدها ومحتاطا لانعكاساتها السلبية .
ذلك أن التربية تتفاعل مع مجتمعها فتنطبع بما يعتريه من تحولات ، كيف ما كانت ، وتستفيد منه عن طريق ما يخصها به من تمويلات ومن خطط وبرامج وتفيده بفضل التكوين الذي توفره لأفراده مساهمة بذلك في دفعه في طريق التقدم والنجاح . وحتى يتمكن أي بلد من احتلال موضع في هذا السياق الكوني المعولم ومن الإنخراط فيه بفعالية ومن الإستفادة من الواقع التنافسي العالمي ، فإنه لا مفر له من تعهد نظمه التعليمية والقيمية ومنظومته التربوية بالتجديد والتطوير ، حتى تزداد فعاليتها ويقع الإرتقاء بكفاءتها وتكون عامل إسناد متين لمجتمعها في واقع العولمة والتقلبات السريعة في كل الميادين . فالتنافس حاليا هو في أساسه علمي وميدان الصراع الأول هو المعرفة والذكاء . ومن كسب ذلك ضمن لنفسه أوفر حظوظ الفوز ببقية الرهانات . بل يمكن القول وبكل يقين أن " صدمة المستقبل جعلت الأمم تكتشف أنها " مجتمعات تربوية نامية " في حاجة إلى تأهيل نظمها التربوية باستمرار حتى تستجيب لمتطلبات عالم يحكمه التغيير المطرد وسطوة المنافسة الشرسة ولا يعطي فرصة البقاء إلا لمن تعلقت همته بامتلاك أسباب الفعل فيه ، والمتمثلة في المعرفة والتكنولوجيا والموارد البشرية ذات الأداء الرفيع ." (1)
ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم سرعة عودة الحكومة التونسية وبكثير من الجدية إلى عرض النظام التربوي التونسي على النقاش المعمق والمستفيض للمرة الثانية في ظرف عشر سنوات فقط . في حي أن المراجعة الفارطة لهذا النظام سنة 1991 جاءت بعد أكثر من 30 سنة عن القانون التربوي الأول لسنة 1958 .
     إن فهم دواعي هذا الإستعجال ، إن صح التعبير ، وتوفير الأجوبة عن كل الأسئلة التي يمكن أن تترتب عن ذلك يجد قاعدته في ما أشرنا إليه  من تحولات عالمية ، ومن دوافع داخلية تشرع جميعها لمثل هذه المراجعة ، بل قل تستعجلها وتجعل منها حاجة متأكدة . فالتعامل مع العالم المعاصر ، بما فيه من طرق إنتاج متطورة ومن أثمان تنافسية ، ومن نوعيات أسواق تحكمها إنتظارات الحرفاء وإلحاحهم ، يفرض ضرورة اتباع طرق تعليم وامتلاك نظم تربوية مواكبة لهذا الواقع الجديد ، مشابهة في أساليبها ومحتواها للنظم التربوية المتوخات من طرف الشعوب التي تجني الفوائد المتراكمة للعولمة بعد أن مدت جذورها في السوق العالمية وفرضت رؤاها على إقتصادياته .
وبشكل عام ، فالنظام التربوي الفعال يجب أن يمكن المتعلمين من إبقاء أذهانهم متيقظة ومن إمتلاك القدرة على التفكير والتعليل والنقد والحكم والإستنباط والتنبؤ وإتخاذ القرار والتعديل .. إلخ كمواصفات ضرورية لأي تعليم نوعي يريد لنفسه جني الفوائد ، مثل التعليم التونسي . وها أن التونسيين الذين عاشوا على إيقاع الإصلاح التربوي لسنة 1991 يحيون اليوم ، كما كان منتظرا ، على تخوم إصلاح تربوي جديد يذهب بهم في هذه الإتجاهات ويستدعي منهم إستيعابه واستبطانه في أعماقه وفي أدق تفاصيله حتى يقفوا أولا على كل مراميه وجزئياته ، حتى يتهيؤوا ثانيا للعمل والمساهمة الفعلية في إنجاحه .
2 – فرضية البحث :
  إن الإصلاح التربوي يوفر الفرصة للمؤسسات التربوية ، باعتبار مسؤولياتها عن رسم معالم مستقبل المجتمع وعن تحديد وجهته اللاحقة ، حتى تعدل نسق عملها التربوي والتعليمي والتأهيلي وتضبط إيقاعها اليومي على ما يشهده الواقع المحلي والعالمي من تحولات في جميع المجالات .... وهذا يعني أن الإصلاح هو بحث عن التجانس بين توجهات المجتمع نحو الحداثة ونحو المجتمع المعرفي والإتصالي الحديث والمعولم ، وبين واقع مؤسساته التربوية باعتبار قيمة دورها في تركيز أسس وزوايا هذا التوجه من ناحية وفي حماية قيم المجتمع وثوابته الأخلاقية والحضارية من أخرى .
3 – تحديد المفاهيم المستعملة في البحث
     أ – مفهوم الإصلاح التربوي
     إن التمكن من أي مسألة والإحاطة بكل تفاعلاتها وعناصرها الجزئية يستدعي توضيح مفاهيمها وتحديد مجالها الدلالي ، حتى لا تتداخل مع المفاهيم القريبة منها والشبيهة بها . وهذا بالتأكيد ما نروم القيام به لتمييز الإصلاح الذي نحن بصدده عن بعض المفاهيم المتداولة في الحقل التربوي والتي توحي بكثير من التشابه معه مثل مصطلحي التجديد والتحديث .    فالإصلاح التربوي la reforme يعني إدخال تغييرات عميقة وهيكلية أو نوعية في بنية النظام التربوي على أساس ما استجد من أبحاث ونظريات في المجالات العلمية والإجتماعية المعتمدة من قبل المجتمع ، وما استشرفته الجهات المسؤولة من مستقبل ومن آفاق لهذا المجتمع . وبهذا نلاحظ أن " الإصلاح التربوي أكثر شمولا وأعم مفهوما من التعديلات والمستحدثات التربوية " .
أما التجديد التربوي l’innovation ، فهو مجرد تعديلات متفرقة ومحدودة تعمل على تغيير بعض جوانب النظام التربوي في اتجاه تحسينها ومزيد الإرتقاء بجودتها وبغاية " اكتشاف حلول مبتكرة لمشكلات هذا التعليم توسيعا لفرصه وتخفيفا لكلفته ورفعا لكفاءته وزيادة في فاعليته وملاءمته للمجتمعات التي يوجد فيها . " (2)
هذا في حين أن التحديث التربوي la modernisation يعني ما يبذل من محاولات "لعصرنة النظام التربوي وذلك بإدخال تقنيات وآليات ووسائط تربوية جديدة من شأنها الرفع من فعالية وكفاءة العملية التعليمية .... دون التعرض لجوهر التعليم أصلا من توجهات وأهداف ومرام . " (3) وهو يعني بذلك مجرد التركيز على إثراء النظام التربوي بالوسائل التكنولوجية الحديثة التي ترتقي به إلى أفضل حال .
وبهذا فإن الإصلاح يتجاوز التحديث والتجديد لينفذ إلى أعماق البناء التربوي ويحدث فيه تغييرات نوعية وهو ما أردنا لفت الإنتباه إليه .  
ب – مفهوم الحداثة :
   من المعلوم أن دلالة أي مصطلح يمكن أن تتغير أو تتعدل من مجال لآخر ، وهو ما يصدق على دلالة مفهوم الحداثة الذي نحن بصدده هذا البحث ، غير أننا سنستعمله هنا في معنى المعاصرة والمواكبة ، أي مواكبة ما يشهده العصر من تطوير وتحديث على جميع الجوانب الفكرية والتكنولوجية والإجتماعية ، في مستوى المضامين والمحتويات والرؤى وكذلك في مستوى المناهج والطرق المتبعة .
هذا يعني أن الحداثة هي إقتداء بالفكر العلمي واهتداء بالإبداعات البشرية وبالنجاحات التي تحققها الإنسانية فتكسب بها المواقع ويتدعم بها حضورها في الكون . كما يعني هذا المفهوم كذلك التنوير الفكري ومناهضة الإنغلاق والتعليلات الغيبية والميتافيزيقية التي لا علاقة بها بالواقع ، إضافة إلى نبذ التقليد والإتباع الدغمائي الذي لا يحكم ميزان العقل ولا يعترف بمنطق ولا يعطي فرصة للفكر النقدي المتثبت .
     الحداثة هي إذن " حالة وعي متغير يبدأ بالشك فيما هو قائم ويعيد التساؤل فيما هو مسلم به "(4) أي يفك العلاقة مع السمات السلبية التي حكمت طويلا على تفكيرنا بالمسايرة وبالعجز عن كل إبداع ، ولكن ذلك لا يمكن أن يعني قط التعارض مع الهوية الوطنية ومع التراث الحضاري الذي يدخل في مجال تكوين الشخصية الخاصة والمميزة لشعب ما أو لمجموعة معينة .
وهذا الفهم الخصوصي للحداثة يرتقي بها إلى مجال الوعي المستنير ويجعلنا في نأي عن متابعة هذا المصطلح في مختلف المقاربات ولدى التيارات الفكرية والفنية المختلفة باعتباره مفهوما ترعرع في بداياته في المجال الأدبي والفني . بل نحن نأخذ الحداثة في معنى المعاصرة ومسايرة التجديدات المستحدثة .

ج – مجتمع المعرفة :
      مرت البشرية بمراحل تاريخية عدة خبرت خلالها عديد الأنماط الحياتية وعديد الأنشطة التي كانت في منطلقها فلاحية بالأساس تقوم على استهلاك ما في الطبيعة من منتوجات زراعية ، وهي مرحلة المجتمع الزراعي . ثم تلتها مرحلة المجتمع الصناعي الذي اتسم بتحويل المواد الأولية الموجودة في الطبيعة وتصنيعها لابتداع الآلات .
أما مجتمع المعرفة فهو مجتمع ما بعد الصناعي الحالي أو مجتمع الألفية الثالثة أو القرن 21 كما يحلو للبعض تسميته ومادة فعله الأولية هي الذكاء البشري . وهو بذلك يمثل ارتقاء إلى عصر الإقتصاد اللامادي وفتحا لمجالات أخرى للإستثمار وأساسا في المعرفة وفي الذكاء الإنساني الذين تحولا إلى أداة للتنافس والصراع في العصر الحديث . وبناء مجتمع معرفي كهذا يستدعي من ضمن شروطه تطوير البحوث العلمية والتكنولوجية وتوجيه الإستثمارات إلى هذا الميدان ، وكذلك نشر ثقافة المعلومات من خلال تركيز مخابر الإعلامية بالمؤسسات التربوية وتدريس هذه المادة وتبسيط قواعدها للجميع إضافة إلى الربط الناجح مع الشبكات العالمية للمعلومات مثل الجامعات ومراكز البحث والأنترنيت .
مجتمع المعرفة يستدعي أيضا تعهد المعلومات وإثراء المعارف باستمرار والإقبال على المعرفة دون توقف إستعدادا لمسايرة التحولات المهنية ولاكتساب مهارات جديدة تمكن من استيعاب ما استحدث من مهن من جهة وضمان كفاءة وتألق الموارد البشرية من أخرى . وهذا يعني أن مجتمع المعرفة هو تكريس فعلي لمبدأ التعلم مدى الحياة واعتراف بأن المعرفة أصبحت تشكل مدخلا للإنخراط في التحولات الإقتصادية العالمية وبابا من أبواب المساهمة الفاعلة في المجتمع وتثمين طاقاته البشرية في ضوء التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة . وبهذا نلاحظ أن المعرفة " لا تتمثل في المعلومة المجردة بل في المعلومة الفارقة أي تلك التي تجدد الإبداع وتولد السؤال تلو السؤال والجواب في إثر الجواب وتحي في العقل والنفس طاقة التجاوز والفعل الحر والإيجابي ، فهي في الأخير أصل الإبداع لا نتيجته فقط . "(5)
د - معنى السلوك الحضاري :
 ترتكز الأخلاق الإجتماعية بشكل كبير على مسألة القيم وعلى مسألة السلوك الحضاري ، إذ لا تماسك ولا تواصل للحياة الإجتماعية بدونهما . والسلوك الحضاري في معناه العام هو طريقة في التعامل السوي أو السليم مع الذات ومع الآخر ومع البيئة المحيطة كذلك . طريقة قوامها الإتصاف بفضائل السمو والترفع والتعفف وبكل الميزات الحميدة المبنية على القيم الأخلاقية الفضلى ، فتحترم الإنسانية في الإنسان وتقبل بالمغايرة وتعتبر الخطأ من مسلمات أو من ملاحق الفعل البشري المجتهد الذي لا يرتقي ولا يتطور إلا بالتعلم من أخطائه وبالإتعاظ بها . السلوك الحضاري من مختلف هذه الزوايا هو ما ينعكس في الأقوال والأفعال أو التصرف من تخلق ومن خصال تتميز بالرفعة والإستحسان وحسن القبول باعتبار التزامها بمجموعة من القيم الأخلاقية الفضلى ومن المعايير المحبذة من طرف المجتمع بل من طرف الإنسانية جمعاء بما هي قيم كونية "(6) .   
والمدرسة التي لا تلقن هذه القيم ولا تعلم هذا السلوك تكون مقصرة بالتأكيد في حق نفسها أولا وفي حق مجتمعها ثانيا باعتبارها أول المستفيدين من هذا السلوك ، وحاجتها إليه لا تقل عن حاجة بقية المؤسسات الإجتماعية ، حتى تتمكن من إنجاز أهدافها وتتفرغ لتجسيم رسالتها التربوية . وباعتبارها كذلك الناقل لهذه القيم والمروج لها لدى شرائح كبيرة من المجتمع وشديدة الحساسية ، هي شرائح التلاميذ والشباب الذين سيكون سلوكهم منطبعا بما لقن لهم من قيم في المدرسة وفي بقية البيآت والمؤسسات أيضا .
والمتصفح لقانوننا التربوي الجديد يلاحظ بجلاء حضور مختلف هذه الإعتبارات في الكثير من فصوله . فهو زاخر بالقيم المثلى ، مشدد عليها ومحرض على إحترامها والتشبع بها . ومن ذلك مثلا أنه يصنف هذه القيم ضمن الكفايات التي يجب تعلمها والإلتزام بها " لتنمية روح المسؤولية والإعتماد على النفس والتعاون مع الآخرين وتقبل النقد والرأي المخالف "(7) .

4 – التقديم المادي لهذا القانون :  
إذا كان الإصلاح التربوي لسنة 1991 قد احتوى على خمسة أبواب مقسمة إلى ستة وثلاثين فصلا تركز فيها الحديث عن مختلف أنواع التعليم ومستوياته من أساسي وثانوي وعالي وتعليم خاص بالإضافة إلى المبادئ الأساسية وباب الأحكام المختلفة ، فإن القانون التوجيهي الحالي قد تضمن تسعة أبواب فصلت إلى سبعين فصلا . وهذه الكثافة الطاغية تجسد بالتأكيد ثراء هذا القانون وإحاطته بالعديد من الجوانب والتفصيلات التي لم توجد في غيره والتي تجعل منه مرجعا وسندا متينا لكل من يريد معرفة أسس ومختلف تفاعلات العمل التربوي .
فالباب الأول دقق رسالة التربية ووظائف المدرسة في فصول عشرة ، ويليه باب حقوق التلميذ وواجباته الذي غطى أربعة فصول ، تاركا المجال بعد ذلك للباب الثالث الذي تحدث عن نظام الدراسة في التربية قبل المدرسية وفي التعليمين الأساسي والثانوي . أما في كافة الباب الرابع الذي بدأ من الفصل التاسع والعشرين وما يليه إلى حدود الفصل الرابع والأربعين فقد ركز الإهتمام على المؤسسات التربوية بشكل عام ما كان منها منتميا إلى القطاع العمومي أو إلى القطاع الخاص . في حين اهتم الباب الخامس في فصوله الموالية الثلاث ، بالإطار التربوي والإداري وبالأسرة التربوية . ليكون الحديث بعد ذلك وخلال الفصول العشرة الموالية التي يتكون منها الباب السادس في مرجعية التعلمات ، في مجالات التعلم وفي الكفايات العامة المستهدفة . أما الباب السابع فقد خصص بكامله إلى مسألة هامة جدا وشديدة الحساسية ولا يمكن أن يغفلها قانون ثري مثل هذا وهي مسألة التقييم . وقد فصل فيها القول في عناوين أربعة أهتم أولها بتقييم مكتسبات التلاميذ وثانيها بتقييم أداء الإطار التربوي والإداري وثالثها بتقييم أداء المؤسسات التربوية ، في حين خصص العنوان الرابع لتقييم مردود التعليم المدرسي .
وعني الباب الثامن من هذا القانون والذي اشتمل على ثلاثة فصول ، بالبحث والتجديد في المجال التربوي قبل أن يهتم الفصلان الأخيران الذين يتشكل منهما الباب التاسع ببعض الأحكام الإنتقالية الضرورية لهذا الشأن التشريعي التربوي .
والمتأمل في هذا النص القانوني الجديد ، خاصة عند مقارنته بما سبقه من النصوص ، تتبادر إلى ذهنه عديد الملاحظات الهامة التي يمكن أن تكون موضوع بحث مقارنة آخر ، من أهمها بروز عديد المحاور الجديدة التي مثلت إضافة نوعية لا يستهان بها مثل ما تعلق بحقوق التلاميذ وبمرجعية التعلمات وبالبحث والتجديد التربوي .... الخ . كما نلاحظ توسعا في محورين هامين هما : محور التقييم الذي فصل فيه القول بشكل مدقق ، وما تعلق بالإطار التربوي والإداري والأسرة التربوية ، وهو المكون الغائب ، إن صح التعبير ، في النص القديم الذي تحدث فقط عن المدرسين .
5 – مرجعيات هذا القانون ومبرراته :
     أ – المرجعيات :  
هذا القانون الجديد عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 / 07 / 2002 هو تطوير للقانون القديم عدد 65 لسنة 1991 والمؤرخ في 29 / 07 / 1991 وهو إصلاح غير مسقط بل مبرر بعديد المرجعيات منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي . فالقانون جاء تبعا لتوصية من رئيس الدولة سنة 1995 بضرورة " التفكير المنظم في تجدد رسالة المدرسة في عالم ينتظر أن يشهد تحولات عميقة على تركيبة المجتمع وعلى بنية المعرفة وأساليب العمل ووسائل الإنتاج " . وتلت ذلك دعوة إلى تنظيم إستشارة وطنية قبل الشروع في إعداد المخطط العاشر لوضع تصور واضح المعالم لمدرسة الغد في جميع مستويات التعليم .
ولقد تدعم هذا التمشي بما ورد في مختلف البرامج اللاحقة من تفكير في التربية جاءت تتويجا لهذا التفكير المنظم والمتأني حول التربية ورسالتها في عالم تمثل فيه المعرفة أحد أهم مقومات القدرة التنافسية للأمم . وأضيفت إلى كل ذلك توصية رسمية في يوم العلم بتاريخ 20 جويلية 2000 بضرورة مراجعة قانون التربية بعد مرور عشر سنوات على وضعه حيز التنفيذ . وهذا مشروع جدا باعتبار أن المعدل العالمي لاستعمال وتداول نفس الكتاب المدرسي هو خمس سنوات ، وبالنسبة للقانون التربوي فمعدل مدة إعتماده هو عشر سنوات تقريبا .
أما في مجال المرجعيات الخارجية فيمكن الإشارة إلى أن هذا الإصلاح إستفاد كذلك من عديد البرامج الأجنبية ومن التجارب العالمية لدى عديد المنظمات والدول . وكان ذلك من خلال مقارنات مع ثمانية عشر نظاما تربويا تميزت بجودة أدائها وبتفوقها في التقييمات الدولية المقارنة . كما اهتدى هذا الإصلاح أيضا بتقييمات عالمية حاولت استشراف ملامح التربية في القرن الواحد والعشرين . والإستفادة هنا واضحة حسب رأينا من تقرير منظمة اليونسكو عن " التعليم ذلك الكنز المكنون "(8) الذي صدر سنة 1995 ووقع تقديمه كأساس " يمكن أن تهتدي به الدول في القيام بالإصلاحات والتجديدات التربوية والتعليمية حتى تتهيأ للتعامل مع مطالب وتحديات القرن الحادي والعشرين ، واقترح الإقتداء بمبادئ أربعة هي : التعلم للمعرفة ، والتعلم للعمل والتعلم للعيش مع الآخرين وتعلم المرء ليكون ، على أن تتحقق هذه الأهداف من خلال التعلم مدى الحياة " . واللافت للنظر أن التقرير الوطني حول مدرسة الغد الصادر سنة 1999 بعنوان " إصلاح تربوي للتأسيس لمدرسة الغد " يعيد ثلاثة من هذه المبادئ بحذافيرها ودون أي تحوير .
وبهذا تبدو مرجعية الإصلاح التربوي خليطا من المستندات المحلية التي تأخذ بالخصوصيات الوطنية في أدق تفاصيلها ومن المستندات العالمية التي تضمن الإنفتاح والإثراء الضروريين لمنظومتنا التربوية والإرتقاء بها إلى مستويات عالمية تتجانس فيها كل عناصر الخيارات التربوية ، دون قفز على هويتنا وعلى خصوصياتنا المحلية .
وهي مع هذا وذاك مرجعية بينة المعالم يمكن أن تتأسس عليها مدرسة الغد وأن تعتمد في مراجعة عميقة أصبحت متأكدة لقانون النظام التربوي عدد 65 لسنة 1991 باعتبار أنه لا معنى لأي إصلاح إجتماعي إن لم تكن التربية رافدا له ، وهو ما أدركه المشروع الإصلاحي التونسي الذي أراد لنفسه أن يكون بالأساس مشروعا ثقافيا .

ب – المبررات :
     ككل عمل إصلاحي اجتهادي شبيه ، يرتهن الإصلاح التربوي الحديث بمجموعة من المبررات العامة والخاصة التي دفعت إليه وشرعت القيام به حتى يمر من طور المشروع والنوايا إلى طور الفعل والإنجاز .    
وفي مجال المبررات العامة ، فلا أحد ينكر ما للمدرسة من دور ريادي وفعال في نحت ملامح الإنسان التونسي المنشود ، أي ذلك الإنسان المسؤول المتجذر في أصوله الحضارية العريقة والمتفتح على الحداثة وعلى منجزات الفكر البشري في نفس الآن . ذلك الإنسان الذي يمكن أن يرجح الكفة لصالح الخيارات الوطنية في كل منافسة ، ولا غرابة في ذلك بعد أن " تأكد أن عنصر المنافسة الأول هو كفاءة الموارد البشرية أي جودة الأنظمة التربوية التكوينية التي تكون هذه الموارد . وضمن هذا السياق تتجه تونس نحو تجويد نظامها التربوي خاصة وأننا انخرطنا في تيار العولمة والتفتح على العالم وفي المشاركة والمنافسة مع دول الإتحاد الأوروبي ."(9) وهذا يعني أن نأخذ في الحسبان كل التطورات العلمية والتكنولوجية والإعلامية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية . وبهذا تتضح ضرورة تطوير الفعل التربوي والإستعداد بجدية وبدقة لمجابهة كل تحديات المرحلة المقبلة بما في ذلك المحلية منها والتي لا يجب أن تغيب عن أذهاننا والمتمثلة خاصة في إرساء مدرسة الغد وفي ضبط مشاريع المؤسسات واعتماد المقاربة بالكفايات الأساسية . وهذا يعطي أهمية قصوى لإعداد مختلف الأطراف الفاعلة بالمؤسسات التربوية لضمان نهوض المدرسة برسالتها التربوية والمعرفية ، وفي مقدمة هؤلاء التلاميذ والمدرسون وأطر الإشراف البيداغوجي والإداري ، وضرورة توفير أفضل السبل لحسن تفاعل كل هؤلاء مع المحيط والمجتمع بما فيه من أولياء ومنظمات ومؤسسات ووسائل إعلام . وبهذا يكون التأسيس حسب رأينا " لليقضة التربوية "(10) ويكون الإحتراس من الإنعكاسات السلبية الممكنة للعولمة على تكوين التلاميذ سواء من حيث البعد القيمي والسلوكي أو من حيث الجانب المعرفي الذي قد يتصف مستقبلا بتراجع هاجس حب المعرفة والبحث عند التلميذ ليكون متقبلا لمعارف جاهزة لا تقتضي منه سوى الإبحار عبر الأجهزة التكنولوجية الحديثة . وخلاصة القول أن الإصلاح هو استجابة " لليقظة التربوية " وتكريس لها وتهيئة لمدرسة الغد حتى تواجه بنجاح كل التحديات والرهانات .   

أما على المستوى الخصوصي فإن المبررات متعددة أيضا بما يرفع الإعتباطية أو الإرتجال عن هذا الإصلاح التربوي كما يرفع عنه الخضوع للرغبات الشخصية أو الإرتهان بالرؤى المنفردة ، بل هو يعكس إجراءا " إجتماعيا يحكمه السعي إلى تحسين المردودية والإرتقاء بآداء المؤسسات التعليمية وتجويد العملية التربوية وذلك وعيا بأن التناظر بين الأمم حاليا أصبح قائما على مستوى جودة نظمها التربوية . "(11) فالتربية مشروع لا ينتهي وهي تعكس الحركية الإجتماعية وتبرز ما يدور داخل المجتمع من تفاعلات بين مختلف الفاعلين فيه إقتصاديا وسياسيا ومعرفيا . ولذا لا بد من تعدد الإصلاحات ولا مفر من تعهد المنظومة التربوية لتطويرها وتعديلها حسب المستجدات وحسب ما يرسمه المجتمع من أهداف ومن غايات . ومن هنا كان تتالي الإصلاحات للنظام التربوي التونسي منذ الإستقلال إلى الآن لارتباط كل إصلاح بخصوصيات مرحلته على مستوى الواقع والآفاق والطموحات .
فقانون 1958 ( القانون عدد 118 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958 ) كان يهدف إلى توحيد المدرسة التونسية بشكل عام وتوحيد مناهج التعليم بعد أن كانت مشتتة في العهد الإستعماري بين التعليم الزيتوني الديني داخل الكتاتيب وبعض المدارس التقليدية وبين التعليم الحديث في المدارس الأخرى التي لا يؤمها إلا قلة من التونسيين . فهذا الإصلاح التربوي الذي ارتكز على الأنموذج الصادقي والخلدوني كان قد صدر في سياق تأسيس الدولة العصرية ، بعد صدور مجلة الأحوال الشخصية وبعد إرساء الجمهورية وصياغة الدستور . وكانت له بالتالي عديد المزايا والأهداف مثل :
- نشر التعليم بين الإناث والذكور دون تمييز حتى يتخلص الشعب بكل فآته من ظلمات الجهل والأمية التي كانت تكبل طاقاته وتعرقل نجاح المشاريع التحديثية . وهو ما تم تأكيده بإقرار مجانية التعليم وإجباريته كذلك حتى نهاية المرحلة الإبتدائية على الأقل .
- وضع الأسس لإعداد برامج وطنية تكرس الإستقلال التربوي والثقافي حتى تكتمل السيادة الوطنية .
- توفير الإطارات التي تحتاجها البلاد لاستكمال استقلالها وضمان مناعتها .
غير أنه وبداية من السبعينات تقريبا طرأت عديد الإشكاليات والتغييرات التي لم يستطع هذا القانون أن يواكبها . فبعض جوانبه لم تنجح كليا على غرار مبدأ إجبارية التعليم كما "اضطربت الإختيارات وتناقضت الرؤى ، فبدأ الفتور يدب في حياة المنظومة التربوية وعلامات العجز عن مواكبة تحولات المجتمع الإقتصادية والثقافية ومتطلباته الجديدة تظهر وتتعمق مربكة عمل المدرسة ومشككة في قدرتها على مسايرة نسق التطور والإستجابة لحاجيات البلاد . "(12) و هو ما أدى سنة 1980 إلى بعث لجنة لإصلاح التعليم أوصت آنذاك بنظام التعليم الأساسي الذي يدوم تسع سنوات (13) إلا أن ذلك لم يجد طريقة إلى التنفيذ فبقي النظام التربوي في حالة الوهن والتذبذب التي كان عليها إلى أن كان الإصلاح الثاني في تاريخ الأنظمة التربوية التونسية سنة 1991 .
ولقد نص القانون عدد 65 المؤرخ في 29 جويلية 1991 ، بالخصوص على إرساء التعليم الأساسي وإجبارية التعليم ومجانيته إلى سن السادسة عشر . كما حسم القول في مسألة الهوية . إذ نص على تعريب التعليم الأساسي ، ثم هو قد أقام التربية على أسس جديدة . هي قيم حقوق الإنسان وأرسى البرامج على ما يسمى بالتكوين المتوازن .
غير أن عديد الإشكاليات بقيت عالقة بنظامنا التربوي مثل ضعف مردود المؤسسة التربوية بدليل تدني نسب النجاح ومحدودية المكتسبات خاصة في اللغات والرياضيات . وكذلك ما تعلق بسيطرة المنحى الكمي على البرامج التعليمية التي ظلت تشكو ثقلا مرهقا للتلميذ ثم أيضا المركزية المفرطة في التسيير(14) باعتبار إهتمام الإدارة المركزية حتى بمشاغل التسيير اليومي للمؤسسات بكل جزئياتها ، وهذا يعني أن إستئثار هذه الجزئيات باهتمامات الإدارة المركزية يستنزف طاقاتها ويمنعها من التفرغ لوظائفها الأساسية المتمثلة في الإشراف على تحقيق السياسة التربوية العامة للبلاد ، كما أنه يعطل المبادرة على المستوى الجهوي والمحلي .
كل هذه الملاحظات وغيرها تؤكد " أن قضايا الجدوى والفاعلية والإنصاف مازالت قائمة أمام المدرسة التونسية " . كما أن سرعة التحولات العالمية كانت تفرض أيضا وتبرر الحاجة إلى تقييم ومراجعة هذا القانون التربوي . ذلك أن " الإنخراط في السوق يفترض دعائم متينة وقدرة فائقة على التجديد والإبتكار لا تدرك إلا بوجود منظومة تربوية تكوينية فاعلة ومتفتحة على أحدث المعارف والتكنولوجيات ."(15)
وكل هذه الحقائق والوضعيات أفرزت قرار القيام باستشارات وطنية حول مدرسة الغد دامت سنتين كما ذكرنا وشاركت فيها كل الأطراف حرصا على تفعيل مبدأ الوفاق في جميع المجالات . وتوجت هذه الإستشارة بندوة وطنية أفضت إلى الإصلاح التربوي الجديد وخطة تنفيذية تتعلق بمدرسة الغد " التي هي تطوير للمدرسة التونسية التي انبنت على اجتهاد خيرة المربين التونسيين في ضوء تحديات الأوضاع المستجدة لمزيد ترسيخ مجتمع الحداثة والإعتدال والتضامن . "(16)
وفي هذا الإطار جاء قانون 2002 الذي نستهل به قرنا جديدا تبدوا تباشيره على أنها رهانات حاسمة في تحديد وضعنا المستقبلي ، كما أنه يتنزل في إطار سياسي عام واعد جدا باعتبار ما تشهده بلادنا من إرساء لمنظومات أخرى متطورة ، سياسية واجتماعية واقتصادية . وكل هذه الملاحظات السابقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن " المقاصد التربوية ترجمة عن القيم الحية للمجتمع وعن طموحاته وتمثله لما ينبغي أن تكون عليه أجياله الصاعدة روحا وفكرا ومؤهلات . وهي لذلك تختلف باختلاف البواعث وتبدل الأحوال ومستلزمات الوقت . فلكل حقبة تاريخية مشروعها التربوي وأغراض ملائمة لحاجيات الأفراد والمجموعة وموائمة لشروط الحياة العلمية والتكنولوجية والإقتصادية والثقافية . "(17) وهذا يوضح من جانب فلسفة وضع القوانين التربوية كما يؤكد من جانب آخر أن القوانين السابقة قد استوفت أهدافها وغاياتها وهي ، حتى من منطلق هيكلتها الداخلية تستدعي التجديد والتطوير ، حتى لا نقول الإصلاح ، لأن هذه الكلمة لا نرى أنها تفي بالغرض هنا أو أنها مستعملة في موضعها الصحيح . وذلك باعتبار أن الإصلاح هو مفهوم يحيلنا إلى مجال دلالي يستحضر الفساد والفشل والسلبية ، وهو ما لا نروم أن ننعت به أنظمتنا التربوية السابقة باعتبار أن كل ما تنعم به تونس حاليا من مميزات فكرية وثقافية وما كسبته من مشاريع رائدة ومن إطارات مكتملة التكوين تفاخر بها في كل المحافل هو نتاج لهذه الأنظمة التي لا نريد أن نقول في شأنها إلا أنها أنجزت الكثير من أهدافها وأن المعطيات الموضوعية تفرض تجديدها وتطويرها وتعهدها باستمرار وبشكل دوري ، ويكون من الأفضل حسب رأينا إستعمال كلمة تجديد القانون التربوي حتى يكون متماشيا مع المستجدات التربوية والتكنولوجية والعلمية والبيداغوجية ويستوعبها . التجديد في مقابل التقادم وليس الإصلاح في مقابل الفساد والفشل .
6 – مراحل إعداد هذا القانون :
ككل قانون تونسي ذي صبغة شعبية ، واقتداء بالتمشي الإستشاري الذي يمثل واحدا من العناصر الأساسية في النموذج التونسي ، مر إعداد القانون التوجيهي للتربية والتعليم بعديد الإستشارات المحلية والجهوية وبتحضيرات معمقة قبل أن يصل إلى صيغته النهائية التي صدر بها . واتخذت هذه الإستشارات عديد العناوين وركزت على عديد الجوانب والتفريعات . فهي قد اهتمت بمدرسة الغد وبالزمن المدرسي وبمشروع المؤسسة إضافة إلى ما تعلق بالمسائل القطاعية والبيداغوجية . وكلها عناصر وفرت فرصا ثمينة لتعميق الحوار حول هذه المسألة الوطنية الهامة .
وللتدليل على ذلك نورد هذا التأكيد الذي صدر بإحدى اليوميات التونسية والذي يدعم ما ذهبنا إليه . فهو قد أوضح أنه " تشكلت في بداية شهر جانفي 1998 لجنة موسعة تضم 50 عضوا يمثلون مختلف الوزارات والهيئات ذات الصلة بقطاع التربية والتكوين ، انبثقت عنها أربعة لجان فرعية تناولت كل لجنة منها محورا محددا. وامتدت مداولات هذه اللجان الفرعية الأربع على قرابة السنة والنصف تخللتها ندوة دولية نظمت في شهر ماي 1998 ساهم فيها خبراء من تونس ومن عديد البلدان ممن لهم تجارب رائدة في مجال الإ صلاح التربوي . كما انتظمت خلال شهر أفريل من سنة 1999 ندوات محلية توجت بندوات جهوية أشرف عليها أعضاء الحكومة وشارك في كل هذه الندوات ما يزيد عن 25 ألف مشارك تناولوا المحاور المقترحة بالدرس المعمق والنقاش المستفيض . وعرضت كل التقارير الصادرة عن الجهات على اللجنة الوطنية لمدرسة الغد لاستغلالها واستثمار ما تراه في المقترحات مع الحرص على تماسك التصور وشمولية الرؤية في إطار نظرة إستشرافية لا تغفل عن مخططات التنمية . "(18)
وفي إطار التفكير في نفس المسألة ، أي مدرسة الغد وكيفية إرسائها ، وضمن التوجه العام لتحديد رسالتها وتطوير وسائلها ومراجعة تنظيماتها جاء التفكير أيضا وفي مرحلة لاحقة ، في مراجعة الزمن المدرسي وإعادة النظر في الحياة المدرسية بصفة عامة وفي جملة الأنشطة التي يمارسها التلاميذ وفي علاقتهم مع كل الأطراف التي يحتضنها الفضاء المدرسي . وتأكيدا لذلك قرر رئيس الدولة يوم 16 جويلية 2001 ، بمناسبة يوم العلم ، تنظيم إستشارة وطنية حول الزمن المدرسي تشارك فيها جميع الأطراف بما في ذلك المربون والأولياء والتلاميذ ، ووقع إنجازها في شهر نوفمبر 2001 ، أي مباشرة بعد مفتتح السنة الدراسية الموالية . والمقصود بالزمن المدرسي هو وقت الراحة بما فيه العطل ووقت الدراسة بما فيه الإمتحانات وغيرها وذلك لإيجاد توازن بين مختلف أزمنة التعليم أي داخل المدرسة وخارجها .
أما على المستوى الجهوي وتأكيدا لهذا التمشي الإستشاري ، شهدت كل الجهات حركية كبيرة بغاية تعميق الحوار حول المسألة التربوية وتضمين ذلك في تقارير وقع رفعها للجهات المأذونة العليا للإستئناس بها ، وعيا بقيمة المسألة وبحساسية دورها في رسم معالم مستقبل البلاد وأجيالها القادمة . واختصارا لكل هذه الحركية وهذا الزخم فسأقتصر على ما شهدته جهة قابس كنموذج لما تم بكل جهات الحمهورية مكتفيا بذكر المحطات الثابتة باعتبار تأكدي منها جميعا نظرا لمشاركتي فيها ومواكبتي لكل فعالياتها في أدوار ومسؤوليات مختلفة .
- 10 / 04 / 1999 : إنعقاد الندوة الجهوية حول مدرسة الغد بإشراف جهوي .
- 02 / 11 / 2000 : تنظيم ندوة إقليمية حول المنظومة التربوية والمؤسسة الإقتصادية بحضور ممثلين عن ولايات قابس ، مدنين ، قبلي وتطاوين .
- 07 / 04 / 2001 : تنظيم اليوم الدراسي الجهوي حول مشروع المؤسسة بإشراف السيد رافع بن عاشور كاتب الدولة للتجديدات البيداغوجية.  
- 12 / 05 / 2001 : تنظيم ندوة عن الأسرة ومدرسة الغد من طرف منظمة التربية والأسرة وبإشراف رئيسها السيد حاتم بن عثمان .
- 18 و19 ماي 2001 : ندوة حول مدرسة الغد بين منطق التصور وآليات التطبيق نظمتها الإدارة الجهوية للتعليم وأشرف عليها السيد وزير التربية منصر الرويسي .
- 08 فيفري 2002 : إعداد ندوة حول المنظومة التربوية المستحدثة من طرف الإدارة الجهوية للتعليم وبإشراف السيد الوزير كذلك .
- 06 ماي 2002 : إنعقاد ندوة حول الزمن المدرسي بإشراف جهوي .
هكذا وبعد هذه الملتقيات والندوات الحوارية المتعددة على مختلف المستويات الجهوية والوطنية وبمشاركة تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بدأت بلورة المشروع وصياغة تفصيلاته ثم عقدت له عديد المجالس الوزارية التي أشرف عليها رئيس الدولة ذاته ليحال بعد ذلك إلى مجلس النواب ووقع عرضه في جلسة يوم 16 جويلية 2002 . ثم وقعت العودة إليه في اليوم الموالي بغية قراءته ومناقشته فصلا فصلا ، وأعيد طرحه في اليوم الثالث للمصادقة ، أي يوم الجمعة 19 من نفس الشهر ، ليصدر بعد ذلك بتاريخه المعلن بالعدد الثاني والستين من الرائد الرسمي كقانون وطني نهائي ممضى من طرف رئيس الجمهورية يوم 23 جويلية 2002 ، يسمى القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 المتعلق بالتربية والتعليم المدرسي .
ونحن إذ نعدد كل هذه التفصيلات وكل هذه المحطات في طريق صياغة هذا القانون فذلك لإبراز أنه إذا كانت هناك مآخذ واعتراضات على هذه الخطة التربوية ، وهذا وارد جدا باعتبار حرية الفكر والتقييم من جانب ونسبية كل إجتهاد بشري من آخر ، فإنه لا يجب حسب رأينا أن يكون ذلك من هذا المدخل أي بدعوى أنها عمل مسقط ولم تقع فيه استشارة كل الأطراف .
7 – رهانات اليقظة التربوية :
     اليقضة التربوية ، هو ذا برأينا المصطلح الذي يختزل القانون التربوي الجديد برمته ويمثله أحسن تمثيل ، أو هو ذا القانون التربوي ذاته وهو أيضا ما يجب أن يكون . فاليقظة تعني الإنتباه والتحفز وعدم الوجود في حالة غفلة أو عطالة بل في وضع الإستعداد للإنطلاق والتقدم . وهو المهم والمطمئن على الوضع التربوي الحالي وعلى مستقبله ، إذ أن هذه اليقظة التربوية ترسم كذلك ملامحه القادمة بإشراق كبير .
اليقظة التربوية لها مراكز إنتباه أو رهانات محددة في القانون التربوي الجديد ، هي حسب رأينا رهان الحداثة ورهان مجتمع المعرفة ورهان السلوك الحضاري . وتجتمع كلها لترسم معا رهانا مصيريا كبيرا هو رهان مدرسة الغد .
     أ – القانون التربوي ومدرسة الغد :
مدرسة الغد هي داخل هذا القانون ذات مميزات ومواصفات تربوية وبيداغوجية دقيقة وذات مهام حددها هذا القانون التوجيهي بوضوح وهي التربية والتعليم والـتأهيل(ف7) . والملاحظ هنا أن التربية تأتي في المقام الأول ، وذلك لأن التعليم وحده وخاصة بمفهوم التلقين والترديد وسرد المعلومات هو مما تقوم به عديد القنوات والمصادر والمؤسسات الأخرى التي بإمكانها حتى التميز في ذلك . القانون التربوي اختار التكامل بين الوظائف حتى لا يطغى جانب على آخر وفرض التكامل كذلك بين المتدخلين لتتعاضد أدوارهم ومجهوداتهم بشكل تام لإنجاز مهمة تجسيم الأهداف التربوية الوطنية ... وتربية الناشئة وغرس القيم لديهم بمجهود مشترك بين إطار التدريس والإطار التربوي وبقية أعضاء الأسرة التربوية وفي تفاعل ايجابي مع الأولياء والمحيط .
مدرسة الغد هي مدرسة تجعل التلميذ محور العملية التربوية(ف2) وتهيئ الناشئة لمواجهة المستقبل ولمسايرة المتغيرات وللإسهام فيها إيجابيا(ف9) وتعطي أولوية مطلقة للتربية وهي لذلك تفرض إجبارية التعليم من سن السادسة إلى سن السادسة عشر للجميع دون تمييز أو إستثناء مهما كان المبرر . ولتنجز هذه الغاية نراها تقر آليتين ، الأولى ايجابية وتتمثل في تقنين مجانية التعليم بالمؤسسات العمومية ، أي الإرتقاء بهذا المكسب إلى مستوى القانون الملزم الذي لا يمكن تجاوزه أو التراجع عنه . وفي منح الإعانات من قبل الدولة للتلاميذ أصيلي الأسر متواضعة الدخل ، وكذلك ضمان هذا الحق حتى للأطفال من ذوي الإحتياجات الخصوصية(ف4) لتكون الفرص متكافئة للجميع . أما الآلية الثانية والسلبية في شكلها ، وليس في غايتها بالتأكيد فهي المتمثلة في ما جاء به الفصل 21 من أن " كل ولي يمتنع عن إلحاق منظوره بمؤسسات التعليم الأساسي أو يسحبه دون سن السادسة عشر ، رغم كونه قادرا على مواصلة تعليمه بصفة طبيعية حسب التراتيب الجاري بها العمل ، يعرض نفسه إلى خطية من 20 إلى 200 دينار وتصبح الخطية 400 دينار في صورة العود " . وهذا يعني رسم رؤية جديدة لإجبارية التعليم تختلف عن الفهم المألوف سابقا . أي أن إجبارية التعليم أصبحت لا تعني إجبارية الترسيم بالتعليم عند سن السادسة بل إجبارية عدم الإنقطاع عن التعليم قبل سن السادسة عشر وفي هذا تطوير كبير لمفهوم الإجبارية .
مدرسة الغد هي مدرسة التكوين الشمولي التي تساعد " التلميذ على تنمية ذهنه وذكائه العملي وحسه الفني ومؤهلاته البدنية واليدوية "(ف22) أي أنها تنمي قدراته بشكل عام جامعة في ذلك بين التكوين النظري والمهارة اليدوية حتى وإن أدى بها ذلك إلى إقرار إمكانية التكوين بالتداول أي بين مؤسسات التعليم ومؤسسات التكوين المهني(ف27) ، وهو ما من شأنه أن يزيد من تفاعل المدرسة مع محيطها ويزيد كذلك من قدرة الشباب على تصور المشاريع وعلى التخطيط لإنجازها بكل نجاح واقتدار .
 ومدرسة الغد التي تكرس كذلك التعلم مدى الحياة ولا تقتصر فقط على مجرد التدرج من التعليم ما قبل المدرسي ، إلى التعليم الأساسي فالتعليم الثانوي ، تولي أهمية قصوى للتقييم بكل تفصيلاته وجوانبه لتجعل منه الدافع القوي للتطوير والتحسن والتميز(ف7) .
وبهذا نرى أن القانون التربوي قد جعل طموحات مدرسة الغد تكبر وتتنامى لترسم حجم الإرادة الكامنة لدى شعب راهن على ذكاء أبنائه وآمن منذ عقود بأن التميز الفعلي لا يكون إلا بتنمية الموارد البشرية وبالمعرفة وبالعناية بالناشئة وبتأطيرها التأطير الأفضل ، حتى يتجسد الحلم على مستوى الواقع الفعلي المعيش ولتشهد كل الأطراف وكل العارفين بشؤون التربية والمتابعين لها في الداخل والخارج بتميز مستوى خريجي مؤسساتنا التربوية وبتكامل تكوينهم وبعلو كعبهم في هذا الميدان . وتتحول الطموحات تبعا لذلك إلى رهانات وطنية تتظافر كل الجهود وكل الطاقات والإمكانيات من أجل الفوز بها .
     ب – القانون التربوي ورهان الحداثة
إن المواصلة على طريق الحداثة التي إختارتها بلادنا ومشت فيها منذ عقود بخطى ثابتة ، يحتم علينا الإلتزام بالعديد من الشروط التي تضمن المداومة على نفس النهج وبالتالي المحافظة على اختيارات البلاد وتدعيمها ، وهذا ما استجاب له القانون التربوي وأخذه بعين الإعتبار من خلال إقراره العديد من الخطوات الضرورية لذلك :
- العناية باللغات " باعتبارها أدوات تواصل وسبيلا للإطلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي من تقنيات ونظريات علمية وقيم حضارية "(ف51) . وإقرار ضرورة حذق لغتين أجنبيتين على الأقل إلى جانب العربية التي تدعم حضورها بما هي مكون من مكونات هويتنا الضاربة في العراقة والقدم ، وسيكون تعلمها " في كافة المراحل تعلما يضمن حذقها وإتقانها بما يمكن من التعامل بها ومعها باعتبارها أداة تواصل وتثقيف ومن إستعمالها ، تحصيلا وإنتاجا ، في مختلف مجالات المعرفة "(ف51) . ودليل ذلك أن العربية ستصبح مادة إجبارية في كل الباكالوريات دون إستثناء بداية من السنة الدراسية 2006 / 2007 .
إن القانون الجديد يشدد على خيار تدعيم الهوية ليس في مستوى التعلمات فقط بل حتى في مستوى الطابع المعماري للمؤسسات التربوية الذي يجب أن يساهم في تقوية الشعور بالإنتماء لدى الناشئة إلى جانب تنمية حسهم الفني وذوقهم الجمالي(ف37) . ومن الثوابت الراسخة في هذا القانون الجديد كذلك ربح رهان الكيف والنوعية التربوية بعد أن ربحت بلادنا رهان الكم وحققت نسبة تمدرس مرتفعة جدا وتكاد تكون كلية .
 وهو ما يحتم التفكير في " ضمان تعليم جيد للجميع يتيح إكتساب ثقافة عامة ومعارف نظرية وعملية ويمكن من تنمية مواهب المتعلمين "(ف9) ومن توظيف التكنولوجيات الحديثة في سائر المجالات . وهذا من شأنه أن يهيأ التلاميذ للتكيف مع المتغيرات وأن يبث لديهم روح المبادرة والإبتكار .
إن ما يميز هذا القانون كذلك هو وضوح التمشي ودقة الإختيارات وضبط كل الأمور حقوقيا إن صح التعبير أي بواسطة قوانين وأوامر وقرارات . فالمدرسة هي ذات مشروع مبرمج ومصاغ بدقة وتتميز بالمرونة في تنظيم زمنها المدرسي الخاص وبالدقة في تحديد أهدافها المتمثلة أساسا في إكساب التلميذ ثقافة عامة متينة وتكوينا معمقا في إحدى حقول المعرفة وتكوينا مختصا في إحدى فروعها .
أما على المستوى الإجتماعي فإن " مساهمة المدرسة في إرساء مجتمع حر ديمقراطي قادر على مواكبة الحداثة والتقدم "(ف48) يمكن أن يتجسد على عديد المستويات التي تذهب من مجال التسيير الداخلي للمؤسسة ، الذي يجب أن يأخذ طابعا إستشاريا يوكل فيه الأمر ، إلى جانب المدير ، إلى مجلس المؤسسة والمجلس البيداغوجي . الأول تشترك فيه كل الأطراف المعنية من الأسرة التربوية وممثلي الأولياء والتلاميذ والجمعيات ذات العلاقة . أما الثاني فهو خاص بالمدرسين ، إلى مجال الحقوق والواجبات الخاصة بكل طرف وخاصة التلاميذ الذين ألح القانون في بابه الثاني على ضرورة تمتيعهم بحقوقهم ومعاملتهم على أساس الإنصاف وتكافؤ الفرص وبناء علاقة معهم عمادها النزاهة والموضوعية واحترام شخصية الطفل وحقوقه كما أكد على ضرورة تبصيرهم بواجباتهم المختلفة تجاه المؤسسة وتجاه الأسرة التربوية ، حتى تصان بذلك كافة حقوق الإنسان في مدارسنا وتتجسد الديمقراطية في شكلها الفعلي المكتمل . 
ومن عناصر التحديث في هذا القانون التوجيهي ما تعلق بالعناية بالبحث التربوي الذي يمثل عاملا أساسيا في تجويد العملية التعليمية وفي الإرتقاء بمردود المدرسة وتأهيلها ، خاصة وقد توفرت له الإرادة والإمكانيات ليكون محيطا بمجالات البيداغوجيا والمناهج والبرامج والوسائط والتقييم والإستشراف ومتابعة التجديدات والمستجدات والإستفادة منها(الباب8) خاصة مع وجود المؤسسات والمراكز المختصة في ذلك .  
ج – القانون التربوي ومجتمع المعرفة
     إن ما يشهده العالم من تحولات جذرية ومتسارعة نمت في بداياتها في المجال المعرفي قبل أن تغزو كل مجالات الحياة الأخرى ، الإقتصادية منها والإجتماعية والتكنولوجية والإتصالية التي إختصرت المسافات بين أطراف المعمورة المترامية لتجعل منها قرية متجاورة المواضع ، لا يمكن أن تبقى المدرسة التونسية بمنأى عنه وهي التي إختارت طريق الحداثة والتعصير كما ذكرنا متفاعلة بشكل مباشر مع محيطها المحلي والخارجي ، مع إضطلاعها بمهمة المحافظة على الذاكرة التربوية الضاربة في التنوع والثراء . ولهذا يؤكد القانون التربوي أن المدرسة التونسية لا يمكن أن تنعزل بنفسها عن مجتمع المعرفة الذي اكتمل تشكله الكوني حديثا أو يكاد ، بل إن تركيزه محليا ورعايته وإنماءه هو من مهامها ومن مسؤولياتها التي هي مطالبة بالقيام بها بكل حرص واستباق . وحتى تفي بذلك فهي مدعوة إلى تنمية المهارات والكفايات لدى التلاميذ وتلقينهم القدرة على إستثمار المعارف وعلى إستعمال تكنولوجيات المعلومات والإتصال باعتبارها خاصة وسائط لبلوغ المعارف وللتعلم الذاتي . وبذلك ينفتح المجال بالتأكيد أمام المدرسة الإفتراضية التي توظف التكنولوجيات الحديثة في مجالات التعلم وأمام إرساء أسس التعلم مدى الحياة للمساهمة في "توفير تعليم جيد للجميع يضمن إمتلاك كفايات ومهارات تؤهل للحياة العملية وللتأقلم مع متغيرات العلم والعمل وللتعلم مدى الحياة "(19) . وفي هذا الإطار يقر القانون التربوي "التكوين المستمر كضرورة تقتضيها التحولات المعرفية والإجتماعية ويحتمها تطور المهنة "(ف46) وبالتالي كآلية تضمن النفاذ إلى التحديث العلمي وإلى التعهد المعرفي وإلى التعلم الدائم .  
إن التعلم الحديث لا يكون تلقينا لمعلومات ولا تحفيظا لقواعد بشكل دغمائي ممجوج بل هو "إكساب لكفايات ولمهارات عامة تمثل قاعدة صلبة لمواصلة التعليم والتكوين " وللإستزادة منه ولقابلية التشغيل أيضا ، وهو ما ألح عليه هذا القانون التوجيهي الذي نحن بصدده(ف56) . وهذا يعني بالتحديد " تكوين عقول مفكرة قادرة على التحليل المنطقي والتأويل الصحيح للمعطيات والتمييز بين الحلول الناجعة والخلق والإبتكار ، وكلها كفايات ضرورية لمواجهة متطلبات مجتمع المعرفة ومسايرة نسق تحولاته السريعة والتكيف معها "(20) . وتبعا لذلك تكون الأولوية بالتأكيد لتنمية مختلف أشكال الذكاء الفكري والحسي والعملي ولتطوير ملكات التواصل وتوظيف كل أنواع التعبير اللغوي والفني والرمزي والجسماني ، على كل أشكال الترديد والتلقين المعهودة(ف9) كما ذكرنا ، وبذلك يكون قانوننا التربوي حريصا على " تأمين متانة التكوين وتوازنه والمساعدة على اكتساب المعارف والكفايات "(ف48) .
     د – القانون التربوي ورهان السلوك الحضاري
لقد سبق وذكرنا في باب التعريفات أن السلوك الحضاري هو ما ينعكس في العقول وفي الأفعال من تخلق ومن خصال تتميز بالرفعة والإستحسان والتفضيل نظرا لانبنائها على القيم الأخلاقية السمحة وعلى المعايير المحبذة التي لا تقف بهذه القيم عند المحليات بل ترتقي بها إلى أطر الكونية والإنسانية الرحبة .
وفي توافق تام مع هذه الرؤية ، بل في سعي حثيث وجاد إلى تكريسها وتعميقها والإرتقاء بها درجات أخرى في سلم الإكتمال والتميز جاء القانون التوجيهي المتعلق بالتربية والتعليم المدرسي الذي عوض قانون جويلية 1991 . والملاحظ أن تعويضه له لا يعني برأينا إلغاءه المبادئ والقيم النبيلة والغايات الحضارية التي إنبنى عليها هذا القانون القديم وحوصلها في باب مبادئه الأساسية في ثلاثة عشر غاية . بل الواقع أنه سعى إلى مزيد تجذيرها والإرتقاء بها والدعوة إلى تكريسها حتى تكون منارة الأجيال في كل حقبة وفي كل مرحلة من مراحل الإصلاح التربوي ، وبذلك تكون " مدرسة الغد مواصلة لتقاليد المدرسة التونسية التي انبنت على اجتهاد خيرة المربين التونسيين في ضوء تحديات الأوضاع المستجدة ".(21) ودليلنا في هذا القول ما تضمنه القانون التوجيهي من تركيز على السلوك الحضاري وعلى قيمه في مختلف المستويات مع جميع الأطراف المعنية بمسارات العملية التربوية . وهو يؤسس بذلك لمدرسة تعنى بتعليم " كفايات سلوكية تتمثل في تنمية روح المسؤولية والإعتماد على النفس والتعاون مع الآخرين وتقبل النقد والرأي المخالف "(ف57) .
وبهذا تكون المسألة السلوكية المبنية على القيم الفضلى الفردية منها والجماعية والخاصة منها بالمعلم والمتعلم على رأس إهتمامات هذا القانون ومن ضمن رهاناته الملحة ، موضحا بذلك ملامح العلاقة التي يجب أن تسود المؤسسات التربوية لضمان حياة مدرسية نقية ومتطورة بفضل إهتدائها بقيم السلوك الحضاري . فالمربون مثلا هم مدعوون " إلى توخي مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص وبناء علاقة مع التلاميذ عمادها النزاهة والموضوعية واحترام شخصية الطفل وحقوقه "(ف12) . أي جعل السلوك الحضاري القويم رائدهم في تعاملهم مع التلاميذ الذين عليهم من جانبهم واجب إحترام المربي وكافة أعضاء الأسرة التربوية ، وعليهم كذلك التقيد بما تستوجبه حرمة المؤسسة التربوية ، كما أنهم مطالبون أيضا ، حسب تأكيدات هذا القانون ، باحترام قواعد العيش الجماعي والتراتيب المنظمة للحياة المدرسية(ف13). وبهذا يتوطد الأساس الحضاري الراقي للعلاقة التربوية فتنبني على الإحترام المتبادل والكلي بكل اقتناع ووعي بالرهانات وبشروط إنجاح هذه العلاقة والإرتقاء بها إلى أفضل المراتب .
ومزيد النظر في هذا القانون التوجيهي يطلعنا على أن رسم معالم المسألة العلائقية هذه لم يكن همه الوحيد ، بل هو قد انطلق منذ البداية بالتأكيد على قيم حضارية أعظم شأنا وأكثر خطورة بما أنها حاسمة في تحديد مسألة الهوية الوطنية ذاتها ، ومن ذلك مثلا قيم الإرتباط بالوطن التي يجب أن تلقنها التربية للناشئة حبا له واعتزازا به ووفاء مطلقا لشهدائه ولتاريخه وحضارته ولقيمه المنعقدة على تثمين العلم والعمل والتضامن والتسامح والإعتدال . والولاء اللامشروط كذلك لا يكون إلا لتونس وللبررة من أبنائها الذين بذلوا التضحيات الجسام من أجلها ومن أجل حرمتها واستقلالها .
كما أن هذا القانون قد شدد على ضرورة تنمية التربية للشعور بالإنتماء الحضاري في كل أبعاده الوطنية والمغاربية والعربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية ، ويكون ذلك بالتوازي مع التفتح على الحضارة الإنسانية وعلى الحداثة إستلهاما للمثل الإنسانية العليا والمبادئ الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان(ف3) . ولا تقف المسألة في هذا القانون التوجيهي عند هذا فقط بل إن مسألة السلوك الحضاري حاضرة أيضا وبجلاء كبير في عديد الفصول الأخرى ، منها خاصة الفصل الثامن الذي أكد أنه من الأولويات أيضا تربية الناشئة على الأخلاق الحميدة والسلوك القويم وروح المسؤولية والمبادرة إضافة إلى تنمية الحس المدني لديها وترسيخ قيم المواطنة عندها حتى يتأسس لديها الوعي من جهة بالتلازم بين الحرية والمسؤولية ، ويقع إعدادها من أخرى للإسهام في دعم أسس مجتمع متضامن يقوم على العدل والإنصاف والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، فتحترم بذلك القيم الجماعية وقواعد العيش معا .
     وبهذا يتجذر السلوك الحضاري لدى كل التلاميذ فنضمن التنشئة على التبصر في الأحكام والثقة بالنفس كما تكون التربية على الإجتهاد وعلى حب العمل وعيا بقيمته الأخلاقية والحضارية . فالأساس الأولي للبناء التربوي هو أساس أخلاقي قيمي تنعدم بدونه فرص التشييد اللاحق للمسار التربوي وهذا ما يبرر حضور مسألة السلوك الحضاري في هذا القانون التوجيهي الجديد للتربية والتعليم منذ فصوله الأولى .    

قيم السلوك الحضاري في القانون التوجيهي للتربية
مبادئ السلوك الحضاري
غاياته
آلياته
التنشئة على الوفاء والمواطنة
- الإرتقاء بالوعي الوطني وترسيخه وتطوير الإعتزاز بالإنتماء للوطن .
- نبذ الولاءات الخارجية والإلتزام بما يفرضه محيط الإنتماء الحضاري أي تطوير الوعي بذلك (ف3)
دعم التفتح على الحضارة الإنسانية
نبذ التقوقع والإنغلاق والتعصب والإستفادة من الثراء الحضاري الذي تتميز به بلادنا .
ابراز ما تتضمنه حضارتنا من أبعاد وطنية ومغاربية وعربية وإسلامية وإفريقية ومتوسطية أي تأكيد كون تونس ملتقى الحضارات 
تثمين العلم والعمل والتضامن والتسامح والإعتدال
غرس ما أجمع عليه التونسيون من قيم
دعم التجذر الحضاري مع التفتح على الحداثة واستلهام المثل الإنسانية العليا والمبادئ الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان(ف3)
توفير نفس الحقوق للأطفال من ذوي الحاجيات الخصوصية
نبذ الإقصاء وجعل الجميع يتمتعون بنفس الحقوق : إحترام حقوق الإنسان في أبهى مظاهرها 
ايجاد مؤسسات تربوية خاصة بهذه الشريحة .
تربية الناشئة على الأخلاق الحميدة والسلوك القويم وروح المسؤولية والمبادرة (ف8)
تنمية الحس المدني لدى الناشئة وتربيتهم على قيم المواطنة وإعدادهم للإسهام في دعم أسس مجتمع متضامن يقوم على العدل والإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات
ترسيخ الإدراك لديهم بالتلازم بين الحرية والمسؤولية .
التبصر في الحكم والثقة بالنفس
تنمية شخصية الفرد بأبعادها الخلقية والوجدانية والعقلية والبدنية .
إذكاء ملكة النقد والإرادة الفاعلة .
حب العمل والإجتهاد
غرس الطموح إلى التفوق
الترشد الذاتي ونحت الشخصية + إحترام القيم الجماعية وقواعد العيش معا .
النشأة على احترام الحقوق والواجبات
توخي الإنصاف للمساواة بين الجميع وتكافؤ الفرص(ف12)
بناء علاقة مع التلاميذ عمادها النزاهة والموضوعية واحترام شخصية الطفل وحقوقه .
الإحترام
فرض هيبة التربية ومؤسساتها والتراتيب المنظمة للحياة المدرسية واحترام قواعد العيش الجماعي :تطوير الحياة المدرسية والرقي بالمسألة العلائقية إلى مستويات عليا
فرض إحترام المربي وكافة أعضاء الأسرة التربوية والمؤسسة التعليمية
+ فرض المواظبة وإنجاز الفروض والمهام الدراسية
الرأفة والتسامح
إحترام حقوق الإنسان من خلال تمتيع التلميذ بعديد الإمتيازات عند إرتكابه للمخالفات . 
عدم الطرد بدون موجب قانوني واضح يقره مجلس التربية + تمكين التلميذ من حق الدفاع عن نفسه (ف13-20)
قيم الأصالة والوفاء
الحرص على الهوية الوطنية
أصالة الطابع المعماري للمؤسسات التربوية . + فرض تعلم اللغة العربية في كل الباكالوريات وفي كافة المراحل(ف51)
التمسك بالقيم الكونية
تدعيم الحداثة والتكوين المتوازن
المساهمة في إرساء مجتمع حر ديمقراطي قادر على مواكبة الحداثة والتقدم  
التوازن والتكامل في الشخصية
ايجاد الشخصية المتوازنة والمتكاملة التكوين والثقافة
تدريس كل الإختصاصات الإجتماعية والإنسانية والتكنولوجية والفنية والجمالية والرياضية والعلمية (ف52-55)
8 – مسؤوليات الإصلاح التربوي
من المؤكد أنه لا يكفي أن يكون لنا قانون جيد متناسق العناصر ومكتمل الرؤى ، بل يجب أن يكون لنا أيضا تطبيق جيد لهذا القانون وتفعيل عيني ومحسوس لكل ما جاء به من مبادرات إصلاحية ومجددة .
وهذا يعني كبر المسؤولية وتنامي حجمها بالنسبة لكل الأطراف ولكل الفاعلين في الميدان التربوي . فضمان ربح الرهانات التي ذكرنا وضمان إنجاح الإصلاح يمر حتما عبر تحمل الجميع لمسؤولياتهم التاريخية أمام تحديات ورهانات وطنية بهذا الحجم وبهذه الجسامة ، سواء أكان ذلك على مستوى وضع الأسس المتينة لمدرسة الغد ، أو على مستوى رهانات الحداثة والمعرفة والسلوك الحضاري .
ولقد أوضح هذا القانون التربوي بعضا من هذه المسؤوليات عندما تحدث عن الواجبات التي رسمت ملامح تلميذ المستقبل ومربي المستقبل وولي المستقبل ، وعندما أوضح كذلك دور المنظمات والجمعيات ومختلف فعاليا المجتمع المدني بصفة عامة في تجسيم الأهداف التربوية الوطنية .
فكون التلميذ محور العملية التربوية الذي توظف من أجله كل الجهود وتحترم حقوق كاملة ، لا يعفيه من واجبات عليه أن يفي بها تجاه المربين وكافة أعضاء الأسرة التربوية مع التقيد التام بما تستوجبه حرمة المؤسسات . وهو مطالب كذلك بالعمل الجدي وبالإنضباط وإنجاز الفروض وكل الواجبات التي تستلزمها دراسته ، هذا إلى جانب إحترام قواعد العيش الجماعي وكافة التراتيب المنظمة للحياة المدرسية حتى يساهم في تحقيق غايات هذا الإصلاح . تلميذ المستقبل هو تلميذ لابد أن يكون له مشروع شخصي متكامل أي مدرسي ، مهني واجتماعي ، يصوغه بتؤدة ويسعى صادقا لإنجازه وعندها لن يقتصر على الجهد الأدنى ولن يقنع بالتحصيل الأيسر ، بل هو سيراعي كل التضحيات المبذولة من أجله عائليا واجتماعيا وسوف يبحث عن كل الفرص والمنافذ التي تضمن له تحقيق مشروعه هذا . وسيكون كذلك في مستوى المكانة التي بوأه إياها القانون التوجيهي الذي جعل منه محور العملية التربوية . فمن أكثر المسائل لفتا للإنتباه في هذا القانون الحظوة الكبيرة التي يتمتع بها التلميذ وحضوره البارز في مختلف أبوابه وفصوله خاصة منها الباب الثاني بما يمثل تجديدا هاما لم نعهده في قوانين التعليم السابقة .
أما المربون من جانبهم فهم مطالبون بمزيد البذل والتفاني في أداء الواجب واستيعاب البرامج وكل هذه الغايات واستحضار الرهانات والشعور بالمسؤولية باستمرار والحذر من العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن عدم ضمان نجاح هذا المشروع الإصلاحي لا قدر الله . وهذا يستدعي منهم الإرتقاء بمستواهم المهني إلى درجات أعلى من الحرفية ومن الكفاءة في الأداء عبر الإقبال على الرسكلة والتكوين ومواكبة كل التطورات البيداغوجية والتربوية والعلمية . وهم مطالبون في كل الحالات(ف12) أثناء قيامهم بواجبهم المهني بمراعاة مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص وبناء علاقة مع التلاميذ عمادها النزاهة والموضوعية واحترام شخصية الطفل وحقوقه وتوخي طرق وآليات انسانية ومجدية في التعامل معه قوامها الحوار والإصغاء والمرافقة المثمرة بدل الطرق التقليدية العقيمة المؤسسة على التهديد والوعيد والمفضية إلى تغييب شخصية الطفل وقتل روح المبادرة فيه . هذا يعني بالتأكيد أنه على المربي أن لا يتخلى عن دوره التربوي وأن يستعيده وألا يكتفي بمهمة التعليم والتلقين ونقل المعرفة والمعلومات لأن هذه الأخيرة أصبحت بضاعة تسوق بصيغ شتى وأصبحت تختزلها عديد المحامل ، وهو يكاد يفقد حتى سلطة المعرفة هذه ، لذا عليه التشبث بالمشروعيات التربوية على الأقل .
والأولياء من جانبهم ، هم أيضا شركاء في الإضطلاع بواجب التربية وفي تحقيق الأهداف التربوية ، ولا يمكنهم التنصل من ذلك بأية ذريعة كانت . فالأهداف التي رسمتها مختلف فصول هذا القانون لا يجيب أن تغيب عن ذهن الولي أو أن يعتبرها مسؤولية المؤسسات التربوية فقط . ولا يمكنه مثلا أن ينتظر وصول إبنه إلى المدرسة وتخرجه منها حتى ينشأ "على الوفاء لتونس والولاء لها وعلى حب الوطن والإعتزاز به وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية فيه وتنمية الشعور لديه بالإنتماء الحضاري ... " أو حتى يتعلم أبجديات التعامل مع الآخر واحترام الغير والمحافظة على المحيط وعلى الملك العمومي والإقتداء " بما أجمع عليه التونسيون من قيم تنعقد على تثمين العلم والعمل والتضامن والتسامح والإعتدال .."(ف3) . بل الأسرة مطالبة أيضا وبشكل أكيد وفق ما أثبته الفصل الخامس من هذا القانون بالمبادرة بتلقين هذه القيم الأخلاقية والوطنية والإجتماعية لأبنائها . وهي مدعوة أيضا إلى تحفيزهم باستمرار ودعوتهم إلى مزيد المثابرة والسعي إلى النجاح المتميز حتى تساهم بجد في جعل الإنقطاع إستثناء وفي تطوير مردودية مؤسساتنا والحد بالتالي من هدر الإمكانيات والطاقات .
الولي الواعي هو الذي ينخرط بكل حرص وطواعية في هذه " اليقظة التربوية " ويساهم في التأسيس لمنظومة تربوية فعالة تدفع ببلادنا وبأجيالها المستقبلية إلى الإمتياز ، وليس هو الذي يتقصى أخبار المؤسسات التربوية وإطاراتها ليخلق حالة من التشويش حولها والتشكيك في ما تقوم به مستدلا بما يمكن أن يلاحظه من سلوكيات عند بعض التلاميذ ، ويتناسى أن التعلم والمعرفة خلال الدروس العادية أو خلال دروس التدارك لا يكفيان وحدهما إذا لم يتنزلا داخل إطار تربوي حصين تشترك في توفيره كل الأطراف والبيآت وتكون البداية داخل الأسرة بكل تأكيد . وكون الولي شريكا هو ما تؤكده عديد الفصول من القانون التوجيهي الذي أفرد له المواقع القيادية في مجلس المؤسسة مثلا وفي غيره من الهياكل الناشطة داخل أسوار المدرسة .... لكنه استشرف أيضا ما قد يظهر لدى هذا الولي من تقصير فنصص في فصله الواحد والعشرين على ما يمكن أن تؤول إليه الحالة عند ذلك .
إن كافة المنظمات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وهياكله معنية كذلك بهذا الإصلاح أيضا ولها مسؤولية في إنجاحه لا يمكنها التفصي منها . وهي في إطار ذلك مطالبة بفهم مضامين الإصلاح ومراميه الوطنية والتعريف بها وبمساعدة المؤسسات التربوية على حسن أداء وظائفها ، وكذلك بتحمل جزء من المسؤولية ومن الأعباء معها بشكل مباشر من خلال المساهمة في الصيانة والتعهد والأنشطة التكميلية أو من خلال الإستثمار الواعي في قطاع التعليم بشكل عام سواء أكان ذلك في المرحلة التحضيرية أو في التعليم الخاص ، مع المحافظة بالتأكيد على الثوابت الوطنية والسهر على حسن الأداء وعلى المستوى الرفيع سلوكيا وعلميا .
9 – الخاتمة
     هكذا يتضح لنا أن الإصلاح التربوية الجديد لم يكن إجراء إعتباطيا أو إختيارا غير مؤسس وغير مدروس . بل إن المتتبع له والمتنقل بين نصوصه بما فيها من أبواب وفصول ، يلاحظ بيسر جلاء الرهانات التي أشرنا لها في فرضياتنا . وواضح أن من أهدافه تعديل نسق عمل المؤسسات التربوية حتى ترتقي إلى درجات أخرى من السرعة والإحكام في زمن لم يعد فيه التراخي أو الغفلة أو الوقوف عند الجهد الأدنى والرضا بالمحصول القليل كافيا لتحقيق أية نتيجة إيجابية في مجال التنمية والترقي الحضاري بل الأكثر حرجا من ذلك " أن كل أمة تفوت على نفسها فرصة تأهيل تعليمها ستكون أمة في خطر "(22) . وهذا ما لا نرتضيه لأنفسنا بالتأكيد .
و" من الواضح أننا على عتبة ثورة أخرى ، فالمعرفة البشرية تتضاعف مرة كل عشر سنوات وقد خلف العقد الماضي معرفة علمية أكثر مما خلفه التاريخ البشري بأكمله ، وتتضاعف قدرة الكمبيوتر كل ثمانية عشر شهرا ، أما قدرة الأنترنات فهي تتضاعف مرة كل عام ، وتتضاعف سلاسل الADN التي يمكننا تحليلها مرة كل عامين . وفي كل يوم تقريبا تبشرنا العناوين الرئيسية للصحف بتطورات جديدة في مجالات الكمبيوتر والإتصالات والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء .
وفي أعقاب هذه الثورة التكنولوجية تنقلب صناعات وأساليب حياة بكاملها رأسا على عقب لتؤدي إلى نشوء أخرى . غير أن هذه التغيرات السريعة والمدهشة ليست كمية فقط ، إنها آلام المخاض لمولد عصر جديد "(23) . ونحن لا يمكن أن نبقى خارج هذا العصر ولا أن نعيش على هامش هذه التحولات ، بل لا يمكن أن نكون إلا فاعلين فيها مستفيدين منها . وهو ما يسعى إلى تجسيده فعليا القانون التوجيهي الجديد للتربية والتعليم المدرسي ويمثل إحدى رهاناته كما ذكرنا .
إن الواقع العالمي الجديد ، الذي بدأ منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي ، يدفع وبكل إلحاح إلى ضرورة ضبط نسق عملنا ومراجعة محاور تفكيرنا وتعديلها على النسق العالمي الذي أوجدته العولمة ، بكل ما فيه من تنافسية إقتصادية ، وبكل ما صاحبها من إنجازات علمية وتكنولوجية واتصالية مذهلة أثرت بعمق في التخطيطات التربوية لكل الدول المنتبهة لها وفي سوق الشغل وفي العلاقات بين الأمم والشعوب وفي برامج التنمية البشرية . وبدأ معها التنظير للإستشراف وللتشغيلية ولمجتمع المعرفة ولما بعد الحداثة وللتعلم مدى الحياة وللمجتمع الإتصالي المعولم ... الخ . وهو ما لم يكن بالإمكان أن تبقى مخططاتنا وبرامجنا التربوية غافلة عنه ، بل إن إعادة النظر في مختلف مكونات العملية التربوية ، كانت أكثر من ذلك ، واعية ب" ضرورة إعتماد بيداغوجيا ملائمة للنجاح تتيح للتلميذ  الحصول ، بطريقة مستديمة ، على المعارف والقدرات العملية التي من شأنها أن تنمي إستقلاله وتوسع آفاقه وتحسن مهاراته العامة في مجالي الإتصال وحل المسائل . كما تكون ذات خصوصية في علاقتها بالأهداف العامة التي ترمي إليها المدرسة بأشكال علمية عقلانية متجذرة في إطار الحوار الديمقراطي النزيه " (24).
إن " يقظتنا التربوية " مبنية على الوعي بأن الإستفادة من العولمة لا تكون بالتعامل معها دغمائيا ، أي بإغفالها أو التصدي لها ومعاداتها ، بل بتثبيت النظر والتفكير على مراكز الإهتمام والإفادة فيها وإعداد الخطط التنموية والبرامج التعليمية التي تضمن لنا نيل نصيبنا من هذه الفوائد مع الحرص على خصوصياتنا وعلى هويتنا ، وهو ما " يؤكد أن الجهود التربوية التي تبذل تستوجبها الضرورة الإقتصادية من ناحية ، وهي واجب إجتماعي من ناحية أخرى . ولذلك فإن العمل التربوي يجب أن يخلق كفاءات عملية من شأنها أن تدعم مسار التنمية بالبلاد "(25) .
غير أن ذلك لا يكون بالطبع وكما ذكرنا على حساب أصالتنا ومقوماتنا الحضارية الضاربة في أعماق التاريخ والتربية . وهو ما دفع إلى رسم رهان آخر لهذا الإصلاح التربوي ، إلى جانب رهانات الحداثة ومجتمع المعرفة ومدرسة الغد ، هو رهان السلوك الحضاري الذي أكده البحث بعد أن إستجلى تمظهراته في مختلف فصول هذا القانون التوجيهي ، والذي يسعى إلى فرض التجانس بين توجهات المجتمع وخياراته التحديثية التي ذكرنا وبين قيم هذا المجتمع العربي المسلم المتفتح على الحضارات والمشدود إلى أبعاد أخرى منها المتوسطي والمغاربي والإفريقي .
وبذلك تكاملت حسب رأينا الأهداف وتساندت الرهانات بكيفية جسدت شمولية هذا الإصلاح التربوي وربطت فيه بحكمة بين التعليم والتربية ، وارتقت به أيضا إلى مستوى الحدث الحضاري والوطني المستعجل والذي لم يكن بالإمكان إرجاؤه أو تأجيله . ولتأكيد ذلك يكفي أن نكرر ما أعلن في كتاب الخطة التنفيذية لمدرسة الغد من أن " المدرسة مطالبة اليوم وغدا بإعداد الإنسان الذي يتعلم ، كيف يتعلم وكيف يعمل وكيف يكون وكيف يعيش مع الآخرين "(26) . لكن إذا ما تأكد وضوح كل هذه الجوانب التنظيرية فإن ما بقي أعسر وأكبر جسامة ومسؤولية ، وهو بالتأكيد الإنجاز ، أي تحقيق الرهانات وتجسيم الأهداف المرسومة نظرا لما يستدعيه ذلك من تضحيات كثيرة ومن جهود متظافرة من قبل الجميع دون إستثناء . ولا معنى لقول إن لم يقترن بما يستدعيه من العمل والإنجاز ، بل إن فضل الفعل على القول مكرمة كما في القول العربي المأثور .
وتبقى مشروعية تفاؤلنا قائمة على الثقة بقدرة بلادنا بشعبها وبإطاراتها على كسب هذه الرهانات كما كان دأبها على ذلك باستمرار .

المصادر والمراجع :
1 – الوزير منصر الرويسي ، الإصلاح التربوي : المضمون والأبعاد ، محاضرة ألقاها بندوة المكونين يوم 11 / 01 / 2003 ص3 ، منشورات التجمع
2 – د . محمد هاشم فالوقي ، اتجاهات حديثة في التربية ص 75 الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ، ليبيا 1987 .
3 – نفس المرجع السابق
4 – د . عبد العزيز حموده ، المرايا المحدبة ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 232 ص 19 الكويت 1998
5 – نبيل خلدون قريسه ، مدرسة المعرفة لبناء مجتمع المعرفة ، مقال بجريدة الحرية ليوم 05 / 12 / 2000 ، ص 2
6 – من بحث لنا غير منشور عنوانه " من العنف إلى السلوك الحضاري " ص9 – 10 .
7 – القانون التوجيهي للتربية والتعليم ، الفصل 57 ، منشورات وزارة التربية والتكوين 2002 ص 43
8 – تقرير اليونسكو : l’éducation , un trésor est caché dedans : rapport à l’UNESCO de la commission internationale sur l’éducation pour le 21eme siecle présidée par J . DELORS ; Paris :UNESCO – Odile Jacob ;1996                                                                                                          
9 – الوزير منصر الرويسي ، من حديث خاص لجريدة الحرية يوم 27 / 06 /2002 ص2 .
10 – المصطلح ورد بكتاب " الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002 – 2007 " ص 15 نشر وزارة التربية والتكوين 2002
11- منصر الرويسي ، نفس المرجع السابق
12 – منصر الرويسي ، الإصلاح التربوي: المضمون والأبعاد ص 2
13 – هذه اللجنة تراءسها آنذاك د. حامد القروي وشغل خطة مقرر لها الأستاذ منذر القرقوري ( من مداخلة الوزير منصر الرويسي أمام جمعية خريجي كلية الإقتصاد والتصرف حول مدرسة الغد – جريدة الصحافة في 06 / 10/2002 ص2 )
14 – عن كتاب " الخطة التنفيذية لمدرسة الغد " ص 19 – 22
15 – منصر الرويسي ، نفس المرجع السابق
16 – كتاب الخطة التنفيذية ص 8
17 - منصر الرويسي ، نفس المرجع السابق ص 7 – 8
18 – مقال : كيف انطلق التفكير في مدرسة الغد ، جريدة الصحافة ، 28 / 10 / 2000 ص 3
19 -  منصر الرويسي ، نفس المرجع السابق
21 - كتاب الخطة التنفيذية ص 8 
22 – نفس المرجع السابق ص 16
23 – متشيو كاكو : رؤى مستقبلية ، سلسلة عالم المعرفة عدد 270 ص 12 – 13 الكويت 2001
24 – د . منذر ابراهيم عافي ، المنظومة التربوية ورهانات التجديد ، مقال بالملحق الثقافي لجريدة الحرية عدد 711 ، في 09 / 01 / 2003 ص 2  
25 - نفس المرجع السابق

26 – كتاب الخطة التنفيذية لمدرسة الغد ص 17 

                                                                                           
                                                                                          محمد رحومة 
                                                        
                                                             مستشار عام في الإعلام والإرشاد والتوجيه المدرسي والجامعي

* هذا العمل في الأصل محاضرة قدمتها في ندوة الإطارات التربوية بقابس ( جانفي 2003 ) ثم أعدت صياغته كبحث نظري قدمته ضمن ملف الإرتقاء لرتبة مستشار أول سنة 2006 

1 commentaire:

  1. أنا Serenity Autumn أعيش حاليًا في مدينة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية. أنا أرملة في الوقت الحالي ولدي أربعة أطفال ، وقد كنت عالقًا في وضع مالي في مايو 2019 وكنت بحاجة إلى إعادة التمويل ودفع فواتيري. حاولت البحث عن قروض من مختلف شركات الإقراض الخاصة والشركات ولكن لم تنجح أبدًا ، ورفضت معظم البنوك ائتماني. ولكن كما شاء الله ، تعرفت على امرأة من الله مقرض قرض خاص منحتني قرضًا بقيمة 850،000.00 دولارًا أمريكيًا ، واليوم أنا صاحب عمل وأولادي في حالة جيدة في الوقت الحالي ، إذا كان عليك الاتصال بأي شركة مع إشارة إلى الحصول على قرض بدون ضمانات ، ولا فحص ائتماني ، ولا يوجد موقّع مشترك مع سعر فائدة 2٪ فقط وخطط وجداول سداد أفضل ، يرجى الاتصال بالسيدة بيجامين لي على البريد الإلكتروني 247officedept@gmail.com و Whats-App + 1-989- 394 - 3740. إنه لا يعرف أنني أفعل ذلك ، لكنني سعيد جدًا الآن وقررت السماح للناس بمعرفة المزيد عنه وأريد أن يباركه الله أكثر.

    RépondreSupprimer