mardi 3 mai 2016

من التوجيه المدرسي إلى إعادة التوجيه

من التوجيه المدرسي إلى إعادة التوجيه
        المسار المتعرج يبدأ بتقدير خاطئ


التوجيه المدرسي

أجمع المختصون على أن التوجيه المدرسي هو ، في عمقه ، مساعدة تقدم للتلاميذ لإقدارهم على الإختيار وعلى اتخاذ القرار المناسب الذي يمكنهم من بناء مشاريعهم المستقبلية وتحقيق الأهداف المدرسية التي يطمحون إليها وفقا للإمكانيات التي يتمتعون بها . أي أن التوجيه المدرسي هو عملية تنسيب بين مجموعة من العناصر المتباينة والتي تصل حد التضارب أحيانا ، وهي القدرات والإمكانيات والمؤهلات والرغبة و الطموح ... الخ ، وبهذا يتضح أن التوجيه المدرسي لا يهتم فقط بالمساعدة على اختيار نوع الدراسة وإنما أيضا بالتكيف مع الدراسة والتغلب على صعوباتها وصعوبات الحياة المدرسية العامة ، وهو ما يجعل من هذه العملية سيرورة متواصلة تمتد على مدى السنين ، وليس حدثا منتهيا في الزمن ، فتتأكد بذلك الحاجة لدوام الإتصال بالتلاميذ ومرافقتهم والإصغاء إليهم لاستجلاء صعوباتهم وتقديم المساعدة لهم في الإبان .
وبهذا تتحدد وظائف التوجيه المدرسي في المساعدة على اختيار نوع الدراسة بما يضمن الإستمرار فيها بنجاح وتميز وهو ما يستدعي :
-          تقييم قدرات التلميذ وميولاته بموضوعية .
-         تعريفه بالشعب والإختصاصات الدراسية والمهنية ومطابقتها مع ما لديه من ميزات ومؤهلات . 
-         تشجيعه على النجاح والمواصلة الموفقة إلى أقصى حد ممكن يسمح له به وضعه الفكري والنفسي والإجتماعي بما يعني الحرص على ضمان التوافق بين الدراسي والأسري الإجتماعي أيضا .
وجلي أن هذا العمل مكثف ومتشعب إلى الحد الذي أصبح يستدعي فيه اعتماد الإختبارات النفسية والمعرفية أو التحصيلية من قبل مختصي التوجيه وعدم الإكتفاء بتوزيع بعض الوثائق المكتوبة أو الإقتصار على اللقاءات الإرشادية العادية .
واعتبارا لكل هذه المعطيات ، تجري سنويا بكل المعاهد الثانوية حملات وطنية للتوجيه المدرسي ، تتواصل على مدى الأسابيع والأشهر . وقد دأبت وزارة التربية منذ إقرار الإصلاح التربوي الثاني سنة 1991 على تسيير مثل هذه الحملات حرصا منها على إنجاح عملية التوجيه المدرسي وتفعيلها وعلى ضمان أوفر ممهدات النجاح لها . 
فمن المعلوم أن التوجيه المدرسي الذي يخضع له تلاميذ السنوات الأولى والثانية ثانوي في نهاية السنة الدراسية ، يرتقي بهم من التكوين العام المشترك إلى مجال الاختصاص المحدد الذي من شأنه أن يرسم لكل منهم الوجهة الملائمة لإمكانياته ومؤهلاته الفكرية والجسدية . ويدفع بمساره الدراسي في اتجاه التميز والتفرد من خلال إقرار مسلك له في مستوى السنة الأولى من ضمن المسالك الأربعة المتاحة : أي مسلك الآداب ومسلك الإقتصاد والخدمات ومسلك تكنولوجيا الإعلامية ومسلك العلوم . وإذا ما كانت المسالك الثلاثة الأولى تتواصل إلى مستوى الباكالوريا ليتواتر فيها التكوين على مدى ثلاث سنوات فإن المسلك العلمي يخضع مجددا إلى عملية توجيه ثانية يقع خلالها تفريعه إلى ثلاثة شعب هي الرياضيات والعلوم التجريبية والعلوم التقنية ، وبذلك تكتمل خارطة الإختصاصات ويقع إقرار شعبة دراسية محددة لكل تلميذ من بين تلك التي يوفرها النظام التربوي التونسي ، فيكون مستقبله بالتالي إما في الآداب أو في الرياضيات أو في العلوم التجريبية أو في العلوم التقنية أو في الإقتصاد والتصرف أو في علوم الإعلامية .
ومن هذا المنطلق يمكن أن نؤكد أن التوجيه المدرسي هو عملية إرشادية نرافق خلالها التلميذ على مدى السنة لنقدم له النصح والإرشاد ونوفر له المعلومة ونساعده على حسن الإختيار وعلى اتخاذ القرار السليم كما جاء في التعريف المذكور سابقا . ولما كانت المهمة كذلك فهي تبدو على قدر كبير من الخطورة والحساسية إذ أن تأثيراتها حاسمة على مستقبل التلميذ المدرسي والجامعي والمهني .
ومعلوم أيضا أن الإختصاص الذي سيوجه له التلميذ وسيزاوله في السنتين الثالثة والرابعة يتعمق في ما بعد ويتحدد أكثر في التوجيه الجامعي الذي يلي الحصول على الباكالوريا مباشرة . ثم أن هذا التوجيه الجامعي هو الذي سيمر من خلاله الطالب إلى الحياة المهنية ، ومن ثمة الحياة الإجتماعية بشكل عام . وهو ما يوضح قيمة التوجيه المدرسي وحساسيته كما ذكرنا .
ويتولى الإشراف على هذه الحملات مستشارو الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي . وهم نخبة من الأساتذة المختصين الذين وقع انتقاؤهم عبر المناظرات الكتابية والشفوية ووقع تكوينهم في الداخل والخارج على مدى سنتين ، تحصلوا على إثرها على شهادة المرحلة الثالثة المتمثلة في ديبلوم الدراسات الجامعية المختصة (DESS) أو الماجستير المهني حسب التسمية الجديدة ، في مجال الإعلام والإرشاد والتوجيه المدرسي والجامعي .
وكما تتجه هذه الحملة إلى التلاميذ لتحقيق الأهداف والغايات التي ذكرنا ، فهي تتجه كذلك إلى الأولياء في اجتماعات خاصة بهم يحرص المشرفون على عقدها خارج أوقات العمل العادية أي مساء الجمعة أو مساء السبت لتيسير حضورها على الأولياء وضمان مواكبتهم لها . ويقع إرشاد هؤلاء الأولياء خلالها إلى حقيقة دورهم في إنجاح عملية توجيه أبنائهم دون ضغط أو تسلط على رغباتهم واختياراتهم ، وإلى نوعية المساعدة التي بإمكانهم تقديمها لهم من خلال توعيتهم بحقيقة إمكانياتهم ومواهبهم حتى يتعرفوا أكثر على شخصياتهم وحتى لا ينجروا وراء رغبات وطموحات فضفاضة وغير واقعية قد يعسر أو يستحيل عليهم تحقيقها بسبب معيقات ذاتية أو عائلية يجب تنبيههم إليها مبكرا .
وخلال الإتصال بالتلاميذ الذي يتم عادة في شكل مجموعات صغيرة لا تزيد عن القسم الواحد ، يقع توزيع وشرح دليل التوجيه المدرسي الذي تطبعه سنويا وزارة التربية بالإضافة إلى بطاقة الإختيارات ، وبيان كيفية الإستفادة من الدليل ومن المعلومات الموجودة به ، مثل ما تعلق بآفاق الشعب وبشروط الإنتماء إليها ، وكذلك كيفية تعمير البطاقة ، بما أن ذلك يتطلب من كل تلميذ عدم الإقتصار على اختيار وحيد ، بل تقديم مجموعة من الإختيارات للمجلس من خلال ترتيب المسالك أو الشعب الدراسية المقترحة عليه ترتيبا تفاضليا يأخذ بعين الإعتبار رغبة التلميذ وامكانياته من جانب ، وكذلك إمكانية تلبية هذه الرغبة الخاضعة أحيانا لطاقة الإستيعاب وللتنافس الذي يفرضه إقبال التلاميذ على هذا الإختصاص . ومعنى ذلك أنه لا فائدة لتلميذ من التشبث برغبة لا تتماشى وإمكانياته أو ليست له حظوظ كبيرة في التحصل عليها ، لأن مجلس التوجيه المكون أساسا من أساتذة قسمه سوف يعمل على تعديل هذه الرغبة وتصحيحها كلما تبين له أنها غير موضوعية ولا تضمن للتلميذ مواصلة موفقة في دراسته الثانوية والجامعية مستقبلا.
ولقد أجملت هذه الوثائق أسس عملية التوجيه المدرسي في النقاط التالية :
-          نتائج التلميذ ،
-         مؤهلاته الفكرية والجسدية ،
-         إهتماماته وميوله ،
-         رأي وليه
-         ومقاييس التوجيه في كل شعبة .
وهو ما يوضحه الجدولان المواليان المنقولان عن منشور التوجيه المدرسي لسنة 2011  :

معـاييـر التـوجيـه فـي نهاية السـنـة الأولى من التعليم الثانوي
المسلك
المواد المرجع
الشروط
الآداب
العربية – الفرنسية – الأنجليزية – التاريخ والجغرافيا


رغبة التلميذ وعدم إعتراض مجلس التوجيه

العلوم

الرياضات - العلوم الفزيائية – التكنولوجيا  – علوم الحياة والأرض
الإقتصاد والخدمات
الرياضيات – التاريخ والجغرافيا -  الفرنسية – الأنجليزية
تكنولوجيا الإعلامية
الرياضيات– العلوم الفيزيائية  – التكنولوجيا – الفرنسية


معـاييـر التـوجيـه فـي نهاية السـنـة الثـانيـة
المسلك
نحو شعبة
الشروط والمواد المرجع
الآداب
الآداب

تتواصل نفس الإختيارات
إذا لم يتقدم التلميذ بطلب إعادة توجيهه
الإقتصاد والخدمات
الإقتصاد والتصرف
تكنولوجيا الإعلامية
علوم الإعلامية

العلوم
الرياضات
العلوم الفزيائية – الرياضيات –علوم الحياة والأرض – اللغة الفرنسية
العلوم التجريبية
علوم الحياة والأرض – العلوم الفيزيائية – الرياضيات – اللغة الفرنسية
العلوم التقنية
الرياضيات – التكنولوجيا – العلوم الفيزيائية – اللغة الفرنسية

وجرت العادة بإعلام التلاميذ بهذه المقاييس وتفسيرها لهم منذ الحملة الإعلامية الأولى في بداية السنة الدراسية والتي تبرمج خلالها أيضا اجتماعات بأساتذة هذه المستويات إضافة إلى بقية الفقرات الأخرى .
بقي أن نشير في الأخير إلى أن عملية التوجيه المدرسي تجري في دورتين ، تسمى الأولى التوجيه الأولي أو التمهيدي أو المبدئي ، إذ تعقد المجالس التمهيدية عادة في النصف الأول من شهر ماي للنظر في رغبات كل التلاميذ دون استثناء ومقارنتها بإمكانياتهم وبما حصلوه من أعداد ومعدلات خلال الثلاثيين الأول والثاني ، وتنبه من ظهرت لديه اختيارات غير موضوعية أو بان لديه تناقض بين الرغبة والإمكانيات حتى يحرص على تعديلها في ما تبقى من السنة الدراسية .
أما التوجيه النهائي فهو الذي يجري في الدورة الثانية عند انعقاد مجلس التوجيه بكل معهد بعد الإنتهاء من مجالس الأقسام الأخيرة ، أي في الأسبوع الأخير من شهر جوان ، وبعد أن تكون نتائج التلميذ وأعداده قد اكتملت في الثلاثي الأخير .
كما  تنشط طوال السنة خلايا الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي التي وقع تركيزها في السنوات الأخيرة بمختلف المندوبيات الجهوية للتربية بما تشهده من مقابلات فردية مع التلاميذ ومع أوليائهم لمساعدتهم على حسم قرارتهم وعلى التغلب على حيرة الإختيار النهائي . إن مختلف هذه الأطر ، وهذه الأنشطة والمجهودات التي أشرنا إلى البعض منها في هذا العرض السريع تعكس عمق الأهمية التي نعطيها جميعا للتوجيه المدرسي .
كما أن متابعة التلميذ ومرافقته على مدى السنة مثلما وضحنا تعكس بجلاء جانبا من الرعاية النفسية والتربوية التي يحظى بها تلاميذ هذا المستوى الحساس باختياراته المصيرية وبمستواه العمري الحرج .
 أما بقية المستويات فلها هي الأخرى حظوتها وأطر رعايتها ومناسبات الإلتقاء بها من طرف المسؤولين والمختصين . فكيف تكون المرونة في تطبيق هذه الإجراءات ؟
تحملنا الإجابة عن هذا السؤال إلى الحديث عن إعادة التوجيه المدرسي وعن عملية الإعتراض على التوجيه التمهيدي ثم على التوجيه النهائي .

إعادة التوجيه المدرسي

         من وجهة نظر قاموسيّة ، فإن المعجم الفرنسي قد عرّف عملية إعادة التوجيه بأنّها " توجيه في اتجاه جديد " [1] . و المصطلح ذاته لم يوجد في اللّغة الفرنسيّة إلاّ سنة 1901 وهو إصطلاح مركب من جزئين " re " و تفيد الإعادة و التكرار و "  orienter "  وتعني وجّه و من هذا الفعل أشتقت كلمة " التوجيه "  غير أنّه من وجهة النّظر الإصطلاحية فإن إعادة التوجيه تفيد التراجع بعد إتفاق كل الأطراف من تلاميذ و أولياء و مجالس مسؤولة ، على توجيه أوّل و إقرار توجيه جديد محلّه ، أي أنه إنتقال أفقي في نفس المستوى من إختصاص إلى آخر بعد إتفاق المعنيين . فهو حينئذ تخلّ عن إختيار كان قد وقع التعبير عنه من طرف التلميذ ووليّه في بطاقه التوجيه المدرسي و أقرّه مجلس التوجيه خلال مداولاته النهائيّة . و هذا الإجماع على وجهة مغايرة يبرّر بالصعوبات التي ظهرت خلال التوجيه الأوّل و شكلت عائقا للتلميذ يمنع نجاحه فيه و تكيفه مع مقتضياته . وهي الوضعية التي تضعف القبول بهذا التوجيه الأوّل و تفسح المجال لسيطرة عدم الرضى على التلميذ ، فيسعى إلى تغيير إختياره و يعبّر عن ذلك علانيّة ويصرّح به في طلب بإعادة النظر في توجيهه الأصلي يتقدم به إلى المجلس في نهاية السنة الدّراسية . وتاريخيا أكّد منشور 16 مارس 1959 على إمكانية " تقويم ما قد يكون غير مصيب في التوجيه المقرّر آخر السنة " و"تقرير توجيه جديد يقتضيه كشف مواهب تأخّر ظهورها " [2] وهو ما نعنيه هنا بمصطلح إعادة التوجيه الذي يتحدّد في كونه عمليّة تقويميّة أو تصحيحيّة و بالتّالي ظاهرة ملازمة للتوجيه وضرورية له .
     ولئن كان ذلك يجيز القول بوجود ثغرات في عمليّة التوجيه ، فإنّه يخفّف من مسؤولية  المجلس و يذهب إلى أسباب أكثر عمقا و دقة تتعلق بجوانب من شخصيّة التلميذ وهو ما دفع في مرحلة لاحقة إلى تأخير عمليّة التوجيه المدرسي إلى السنة الخامسة عوضا عن الثالثة لمزيد التروّي و التثبّت من ظهور هذه المواهب ووضوحها ، كما أثبت ذلك الإصلاح التربوي .و لقد زاد الأستاذ بلقاسم بن سالم في تدقيق معنى " إعادة التوجيه " حين أكّد على أنّه عمليّة " توجيه في غير موعده لا يشمل شريحة مدرسيّة بكاملها بل حالات منفردة . إنّه تصحيح التوجيه على ضوء نتائج التلميذ بعد مباشرته الشعبة التي وجّه  إليها "[3]. وهو ما يعني أن إعادة التوجيه هي عمليّة محدودة من حيث الحالات المنتفعة بها و من حيث الحيز الزمني المخصّص لها . لذلك هي " لم تصبح حسب نفس الباحث ، ممارسة واسعة النطاق  "[4]. ولقد ذهب الأستاذ بن سالم إلى حدّ مماثلتها بعمليّة التوجيه العادية لكن " مع إختلاف في الظروف  والجمهور" [5] حسب قوله . لكننا نضيف كذلك الإختلاف على مستوى المقاييس أيضا وهو ما سنسعى إلـى توضيحه . فمقاييس التوجيه المـدرسي كـما رأينـا هي واضحـة و مضبوطـة ، أمّـا فـي مستـوى إعـادة التوجيه فإنّ العمليــــّة على عكس ذلك ، تبدو على جانب كبير من الغموض ، إلى درجة لا يمكن معها حسب رأينــا الحديث عـن مقاييس بل عن إجراءات عامّة تحاول أن توجد مبرّرا قانونيا للمسألة  .والنصّ القانوني والإداري ذاته تحدّث عن تراتيب ولم يذكر كلمة مقاييس ولو مرّة واحدة . والتراتيب المذكورة هي الآتية [6] :
-  طلب معرّف الإمضاء يتقدم به الوليّ إلى مدير المعهد ، قبل غرّة جوان يطرح فيه رغبته و يبرّرها .
 - تحويل مجلس القسم الختامي إلى مجلس إعادة توجيه يشارك فيه أساتذة القسم .
-  دراسة موضوعيّة و معمّقة لملف التلميذ للتثبّت مما إذا كان التوجيه الأصلي الذي تحصّل عليه التلميذ هو السبب الأساسي في استمراره .
 - تحرير محضر جلسة بالنسبة إلى كلّ حالة يجب أن يمضيه مدير المعهد و كل أساتذة القسم
-  إعلام الوليّ بالقرار وحفظ محضر الجلسة بملفّ التلميذ .
و الواضح أنّ العمليّة برمّتها متروكة لإجتهدات مجلس القسم مع تحميل جزء من المسؤولية للولي. أمّا الطّرف المغيّب فيها فهو التلميذ أي المعنيّ الأول بالمسألة الذي نرى أنّه قد سقط في النسيان ، حسب عبارة هيدغير . وهذه الوضعيّة ، تعكس ، في نظرنا موقفا غير إيجابي من التلميذ يقابله دعم مطلق لإرادة الوليّ   و للسلطة الأبويّة ، ونخشى أن يتحول ذلك إلى تسلط على إرادة التلميذ وعلى إختياره وقرارته ، فيلزمه باستبدالها ويمنعه من إقرارها وتجسيدها . وهذا يعني أنّ الولي بفضل هذه المشروعيّة القانونية بإمكانه أن يتقدّم بطلب إعادة توجيه منظوره حتى دون رضائه أو أن يرفض إختياره أو يساومه عليه بالإمتناع عن الإمضاء ، ولا مانع قانوني يحول دونه وذلك في كلتا الحالتين ، بما أنّ التلميذ لم يقع حتى اشتراط إمضائه هو الآخر إلى جانب إمضاء وليّه و ذلك في رأينا هو أقل ما يمكن أن يطالب به مجلس التوجيه خاصة وأن إمضاء التلميذ مشترط في بطاقة التوجيه ، فكيف لا يؤكد ذلك في مطلب إعادة التوجيه ؟ 
ويمكن أن يكمن الحل أيضا في استدعاء التلميذ و التثبت معه مباشرة من هذه النقاط أو أن توكل هذه المهمّة إلى مستشار التوجيه أو إلى الأستاذ الموجّه الذي يقدّم توصية للمجلس في الغرض بعد أن يكون قد أجرى مقابلة مع التلميذ وبحث معه مجمل هذه القضايا . كما يمكن أن يستدعي ولي التلميذ أيضا و ينظر معه في الأمر .

واقع مسألة إعادة التوجيه في المنظومة التربوية التونسية

  أ – تغييب إعادة التوجيه : 
     يمكن أن نلاحظ أن مسألة إعادة التوجيه المدرسي لم تظهر في اهتمامات البيداغوجيين ومسؤولي التربية التونسيين إلا مع الإصلاح التربوي الثاني الذي أنجزه الوزير المرحوم محمد الشرفي سنة 1991 وارتبط باسمه في أذهان العديدين نظرا لما أوجده من حركية ومن تصورات جدية مجددة وعميقة في المنظومة التربوية .
لكن ، وحتى مع هذا الإصلاح ، فإن مسألة إعادة التوجيه لم تكن حاضرة منذ بداية تبلوره ، بل لا نجد لها أي ذكر في أول منشور خاص بالتوجيه المدرسي وصادر في عهد هذا الإصلاح ونقصد المنشور عدد 106 / 92 . فهو قد أوضح كل الخطوات التي يجب اتباعها في عملية التوجيه المدرسي منذ بداية السنة الدراسية عبر الحملات الإعلامية الموجهة للأولياء والتلاميذ والأساتذة ، معلنا تعيين أساتذة منسقين في الإعلام والتوجيه المدرسي وبعث شعب جديدة لم تكن موجودة قبل ذلك وأساسا الإقتصاد والتصرف والرياضيات والعلوم التجريبية والعلوم التقنية ، عوضا عن شعب قديمة كالرياضيات تقنية أو تفريعا لأخرى مثل شعبة العلوم ومحددا لمقاييس وشروط الإلتحاق بهذه الشعب وحتى لطاقة استيعابها عبر إلحاحه على نسبة مائوية محددة لكل منها ، يجب احترامها وحتى الإلتزام بها بصرامة من طرف مجلسي التوجيه التمهيدي والنهائي ، في حين غابت عن هذا المنشور كل إشارة إلى عملية إعادة التوجيه وتغاضى عن مجرد الإشارة إليها .
ولم تبرز في مناشير وزارة التربية إلا بداية من السنة الدراسية الموالية 92 / 93 لتمر بعد ذلك بعديد المراحل والخطوات التي يمكن أن نجملها في ثلاثة وعرفت خلالها تطويرا ت مهمة جدا :
ب – مرحلة الإعتراف المحتشم :
 وبدأت مع المنشور عدد 20 / 93 الذي تحدث عن إعادة التوجيه مكرها ومحاولا نفي مبرراتها بعد ظهور التوجيه المدرسي الجديد ،وهو ما نفهم منه أن هذه المسألة كانت تعتبر من الشواهد على نقص الطريقة المعتمدة في التوجيه التي يفضل التغاضي عنها وعدم الإقرار بها ، بل يخشى حتى الإعلان عنها للعموم .  
لذلك يكرر هذا المنشور أنه " نظرا إلى تأجيل عملية التوجيه إلى السنة الخامسة من التعليم الثانوي وإلى ما ينظم من اجتماعات لفائدة الأولياء والتلاميذ المعنيين بغية إعلامهم وإرشادهم ، فإن إعادة التوجيه أصبحت لا مبرر لها " ، وهذا نفي واضح لكل مشروعية لها ، ثم يستدرك باحتشام وبشروط أيضا " إلا أنه في حالات إستثنائية يقدرها مجلس القسم وتقتصر على من تقرر إستمراره بالسنة السادسة ، مهما كانت الشعبة التي ينتمي إليها ، يمكن النظر في إعادة التوجيه بداية من شهر جوان 1994 " . ثم ينخرط في سرد الشروط التي يجب توفرها لإنجاز هذه العملية مثل " أن يتقدم الولي إذا توقع استمرار منظوره بالسنة السادسة واعتبر ذلك نتيجة توجيه غير موفق ، طلبا معرف الإمضاء إلى مدير المعهد ، قبل غرة جوان يقترح فيه إعادة توجيه منظوره إلى شعبة معينة " ، ثم توكل مهمة دراسة هذا المطلب لمجلس التوجيه النهائي الذي هو تحويل لمجلس قسم السنة السادسة الذي يتثبت إن كان " التوجيه إلى الشعبة التي بها التلميذ هو السبب الأساسي في استمراره بالسنة " وهل أن " إعادة التوجيه إلى شعبة معينة تضمن تحسن نتائج التلميذ تحسنا ملحوظا " حتى يتخذ قرار إعادة التوجيه إلى الشعبة المعينة .
وما يلتفت الإنتباه هنا خاصة هو التغييب الكلي للتلميذ ، المعني الأول بالأمر ، فهذا المنشور لم يقر بحقه ولا بطلب رأيه في إعادة توجيهه ، إذ هو لم يشترط حتى توقيعه إلى جانب الولي مثلما هو الشأن في بطاقة التوجيه ، فما يشترط في التوجيه لا يشترط في إعادة التوجيه ، وهذا نقيصة كبرى .
ج – مرحلة التقنين :
إن الإعتراف المعلن بإجرائية إعادة التوجيه وبأحقية التلميذ بها برزت مع الإصلاح التربوي الثالث ، أي سنوات بعد صدور القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي عدد 80 / 2002 . إذ جاء في المنشور عدد 23/1/ 2006 الصادر في 30 مارس 2006 أنه " يحق للتلاميذ تقديم مطلب في مراجعة قرار التوجيه باستثناء من تحصل منهم على اختياره الأول أو الثاني ، ويتم تقديم مطلب في الغرض إلى إدارة المعهد في أجل لا يتجاوز النصف الأول من شهر أوت " ثم تحال هذه المطالب بعد ذلك دفعة واحدة إلى الإدارة الجهوية مرفقة ببطاقات بيانات مفصلة عن التلاميذ المعنيين في بداية الأسبوع الأخير من شهر أوت .  
وهنالك تبعث لجنة للنظر في المطالب وتتكون من المدير الجهوي رئيسا والمدير المساعد للمرحلة الثانية من التعليم الساسي والتعليم الثانوي بصفته مقررا ، إضافة إلى ثلاثة مديري معاهد ، والمرشدين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي ، ومتفقدين اثنين : واحد عن اللغات والآخر عن العلوم ، وأربعة أساتذة : أستاذ في إحدى اللغات وأستاذ في مادة علمية وآخر في مادة إجتماعية ورابع في التكنولوجيا .
وتنظر هذه اللجنة ، المعقدة جدا والتي يحضرها أطراف لا علاقة مباشرة لهم بالعملية ونقصد هنا خاصة المتفقدين ، في هذه المطالب في الأسبوع الأول من سبتمبر وتعتبر قراراتها نهائية لتبعث بها فورا إلى المعاهد المعنية .
وهكذا يبدو هذا التقنين مشروطا ولا ينتفع به إلا التلاميذ الذين حصلوا على اختيارهم الثالث أو الرابع دون غيرهم . وهذا الشرط مجلبة حسب رأينا لعديد المآخذ ، إذ هو ينطلق من جوانب شكلية ولا يأخذ بعين الإعتبار الأمور النفسية والتطورات التي يمكن أن تطرأ على التلميذ بحكم ما يمكن أن يرد عليه من معلومات وما ينظاف له من معرفة خلال العطلة وما يمكن أن يقره من تعديل لرغباته بعد توصله ببطاقة أعداده النهائية أو بعد متابعته لنتائج الباكالوريا الوطنية التي يعلن عنها في تلك الفترة وهي تؤثر كثيرا في اختيارات التلاميذ وفي مدى تمسكهم بها ، وكثيرون منهم يعيدون تقييم إمكانياتهم ويعدلون مشاريعهم المستقبلية بسب هذه النتائج . وهو ما يجعل كل الإختيارات قابلة للمراجعة دون استثناء بما في ذلك الأول والثاني .
د – مرحلة التعديل والتطوير : 
يبدو أن وزارة التربية تفطنت إلى هذه المآخذ وعملت على تفاديها في مناشير المتأخرة . وهو ما نلاحظه في تخليها عن هذه الشروط فيما بعد ، إذ أصبح حق التلميذ في المطالبة بإعادة التوجيه مطلقا وغير خاضع لأي شرط باستثناء تحديد أجل التقدم بالطلب في النصف الأول من شهر أوت . وإثرها تقوم إدارة المعهد بنفس الإجراءات مع إقرار تعديل هام في تركيبة اللجنة الجهوية التي أصبحت ، بداية من السنة الدراسية 2010 – 2011 ، تتكون من المندوب الجهوي للتربية رئيسا ، أو من ينوبه ، وكافة المستشارين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي ، يتولى كل منهم دراسة مطالب مراجعة قرار التوجيه للتلاميذ الراجعين إليه بالنظر ، ثم مدير المؤسسة التربوية المعنية بدراسة مطالب قرار التوجيه ، المرشد التربوي لتلك المؤسسة التربوية المعنية وأحد الأساتذة المكلفين بالتوجيه عن كل معهد. وبذلك أصبحت تركيبتها أكثر توازنا وأكثر منطقية . 
وتأكيدا لهذا الحرص على متابعة مسألة إعادة التوجيه توصي الوثائق الجديدة بإحالة الوضعيات الإستثنائية التي لم يتسن البت فيها جهويا إلى الإدارة العامة للمرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي لدراستها والبت فيها عن طريق لجنة وطنية تتكون في الغرض بداية من الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر .
وبذلك تتوالى محطات الإهتمام بإعادة التوجيه على عديد المستويات من المحلي داخل المعاهد ، إلى الجهوي بالمندوبية ثم الوطني بمكاتب وزارةالتربية ، وهذا مؤشر واضح جدا على العناية الجدية بإشكالية إعادة التوجيه المدرسي ، وعلى تفهم أكثر لدوافعها ودواعيها الظاهرة منها والخفية . كما أن الإجتهاد في بحثها وضبط نواميس وتمشيات معلومة لها مكن من ضبط خارطة المنافذ والممرات بين الشعب والإختصاصات وتحديد إشتراطاتها .
وتلخص الجداول التالية المقتطعة من المنشور الوزاري المنظم للتوجيه المدرسي ،  مختلف هذه التعديلات والتطويرات المدخلة على هذه العملية للإرتقاء خاصة بإجراءات إعادة التوجيه وإقرارها كعملية ثابتة في الحياة المدرسية للتلميذ :  

معايير إعادة التوجيه في نهاية السنة الثانية من التعليم الثانوي – في حالة الإرتقاء
المسلك الأصلي
الشعبة الممكنة
المواد المرجع
شرط إعادة التوجيه

العلوم
علوم الإعلامية
الإعلامية * - الرياضيات – العلوم الفيزيائية – الفرنسية



رغبة التلميذ وعدم اعتراض المجلس
الآداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا
الإقتصاد والخدمات
الآداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا

تكنولوجيا الإعلامية
العلوم التقنية
 التكنولوجيا – الرياضيات – العلوم الفزيائية – الفرنسية 
الرياضيات
الرياضيات – العلوم الفزيائية – الأنقليزية – الفرنسية
الإقتصاد والتصرف
الرياضيات – التاريخ والجغرافيا – الفرنسية
* خاص بتلاميذ المعاهد النموذجية .

معايير إعادة التوجيه في نهاية السنة الثانية من التعليم الثانوي – في حالة الرسوب *
المسلك
المواد المرجع
شرط إعادة التوجيه
الآداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا

رغبة التلميذ وعدم اعتراض المجلس
العلوم
الرياضيات – العلوم الفزيائية – علوم الحياة والأرض
الإقتصاد والخدمات
الرياضيات – التاريخ والجغرافيا – الفرنسية – الأنقليزية
تكنولوجيا الإعلامية
الرياضيات – العلوم الفزيائية – التكنولوجيا  – الفرنسية
* مع إعتماد المرونة في دراسة هذه المطالب

معايير إعادة التوجيه في نهاية السنة الثالثة من التعليم الثانوي – في حالة الإرتقاء
من السنة الثالثة
إلى السنة الرابعة
المواد المرجع
شرط إعادة التوجيه
رياضيات
علوم تجريبية
علوم الحياة والأرض – العلوم الفيزيائية – الرياضيات – الفرنسية


رغبة التلميذ وعدم اعتراض المجلس
علوم تجريبية
رياضيات
الرياضيات – العلوم الفيزيائية – علوم الحياة والأرض – الفرنسية
علوم تجريبية
آداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا
اقتصاد وتصرف
آداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا
علوم الإعلامية
علوم تقنية
 أنظمة وشبكات – الرياضيات –العلوم الفيزيائية – الفرنسية


معايير إعادة التوجيه في نهاية السنة الثالثة من التعليم الثانوي – في حالة الرسوب
من السنة الثالثة
إلى السنة الثالثة
المواد المرجع
شرط إعادة التوجيه
رياضيات
علوم تجريبية
علوم الحياة والأرض – العلوم الفيزيائية – الرياضيات – الفرنسية


رغبة التلميذ وعدم اعتراض المجلس
رياضيات
علوم تقنية
الرياضيات – العلوم الفزيائية – الفرنسية
علوم تجريبية
رياضيات
الرياضيات – العلوم الفيزيائية – علوم الحياة والأرض – الفرنسية
علوم تجريبية
علوم تقنية
العلوم الفزيائية – الرياضيات –  الفرنسية
علوم الإعلامية
علوم تقنية
أنظمة وشبكات – الرياضيات –العلوم الفيزيائية – الفرنسية
علوم الإعلامية
رياضيات
الرياضيات – العلوم الفزيائية – الفرنسية
اقتصاد وتصرف
آداب
العربية – الفرنسية – الأنقليزية – التاريخ والجغرافيا
علوم تقنية
علوم الإعلامية
الرياضيات – العلوم الفزيائية – الفرنسية

وهذه الجداول هي المعتمدة في أعمال وقرارات اللجنة الجهوية لإعادة التوجيه . وهي قابلة أيضا للنقد والتقويم من أجل إضفاء المزيد من الجدوى والمصداقية عليها ، ولعدم تناسقها أحيانا . من ذلك أن جدول إعادة التوجيه في نهاية السنة الثانية في حالة الإرتقاء يقر لتلاميذ الإعلامية إمكانية الإلتحاق بشعبة الإقتصاد والتصرف متغاضيا عن شرط الإلمام بالمواد المميزة للإختصاص أي التصرف والإقتصاد ، ثم هو يمنع هذه الإمكانية ، أي الإلتحاق بالإقتصاد ، عن بقية الإختصاصات وخاصة منها اختصاص العلوم الذي يبدو أقرب للإقتصاد منه للإعلامية .
ونفس الملاحظة ، أي عدم التناسق ، يمكن أن نتفطن إليها في الجدول الخاص بالسنة الثالثة ، في حالة الرسوب ، حيث نرى إقرار إعادة التوجيه من علوم التقنية إلى علوم الإعلامية متغاضيا على عقبة المواد المميزة التي من المفروض أن يكون التلميذ قد بدأ دراستها منذ السنة الثانية ، مثل مواد الشبكات والخوارزميات وتقنيات الإعلامية . وهذه جميعا ، حسب رأينا ، نقائص يجب أن يقع تلافيها بكل جدية .

المشروع المدرسي وإعادة التوجيه

         " يمكن أن نعرّف المشروع على أنّه سلوك إستباقي يفترض إمكانية تمثّل غير الآني و كذلك القدرة على تخيّل الزمن المستقبلي عبر بناء مجموعة من الأفعال المتلاحقة و من الأحداث الكامنة "[7] وهو بهذا المعنى رؤية أو بناء فكري يستحضر المستقبل ، يرسمـه ، يخطّـط له و يستجـلي معــالمه ، يبرمـج لهـا ويوجّهها محاولا التحكم فيها قبل أن تفاجئه ، لذلك هو إستباق للزمن ، أو بلغه الفلاسفة هو " فعل بالقوة يمثل للوعي بإستباق "[8] وهو بهذا المعنى يكتسي طابعا برغماتيا عمليا إذ فيه تتجسّد برمجة الأفعال التي يرجى إنجازها فيكتسي بذلك طابع " منهجيّة متكاملة لإستغلال الفرص "[9] و يمكن أن يكون المشروع فرديّا خاصّا بشخص محدّد ، حتى و إن كان لا يمكن أن يكون كذلك إلاّ إجرائيا كما يمكن أن يكون جماعيا يرسم طموحات وأهداف المجتمع ككل ، و" دون أن يكون حاصل كل المشاريع الفردية الخاصة ، بل وليد حوار بناء وتفاوض هادف وواقعي بين كل العناصر والأطراف المكونة لهذه المؤسسة "[10]. وإذا ما كان المشروع شخصيا فهو يمكن أن يتفرّع إلى ثلاث  :
1 -  مشروع عمل أو تحرك على مدى قصير حسب تسمية F. Dubet  ، وهو الذي يقابل مشروع التوجيه المدرسي.
2 -  مشروع على المدى الطويل للكهول أي خاص بفترة من العمر أكثر تقدّما ، وهو في واقع الأمر مشروع إندماج إجتماعي ، و لما كان هذا الأخير يمرّ حتما عبر النشاط و العمل و المشاركة الإجتماعية حتى يتيسّر قبول الفرد داخل المجموعة ، فإن هذا المشروع سيكون بالتأكيد مشروعا مهنيا.
كما يضيف F. Dubet  ملاحظا أنّ عملية تكيّف الشبان يتحدّد شكلها من خلال كيفية أو صيغة الربط التي سيقع إعتمادها بين المشروع الدراسي و المشروع المهني . و التي يمكن أن تكون حسب رأيه إمّا رضى أو صراعا أو هروبا أو لا مبالاة .
3 - وإلى هذين المستويين من المشروع يضيف رودريقاز تومي  Rodrgez Tome ثالثا أكثر شمولية وأسماه المشروع الحياتي ، و هذا المشروع متجذّر في أعماق شخصية الفرد . وبذلك تتهيكل مستويات المشروع و تنحصر في ثلاث : المشروع الدراسي ، المشروع المهني ، و المشروع الحياتي [11] دون ملاحقة بقية التسميات التي يمكن أن نعثر عليها في ميادين أخرى كثيرة . غير أنّ ما يعنينا في هذا البحث هو المشروع الأوّل ، أي المشروع الدراسي نظرا لوثيق إرتباطه بعملية التوجيه المدرسي التي نحن بصددها ، حتى و إن كان غير منفصل عن بقيّة المستويات .
         لقد غزت فكرة المشروع كل المجال المدرسي منذ السبعينات و أصبح من المحبذ لكل تلميذ ، بل من شروط نجاحه أن يرسم لنفسه مشروعا دراسيّا ينبسط في حياته المدرسية لربط ماضيه بحاضره و مستقبله  أي يستعيد فيه مساره بكل ما اعتراه من تميّز أو من كبوات و صعوبات مثل سنوات الإستمرار والإخفاق التي سيكون لها تأثير عميق في نوعية دراسته المقبلة ، ويقيم خلاله إمكانته الحالية وما تخوّله له من إختيارات . ومن خلال هذه العناصر جميعا يكون بإمكانه تحديد الملامح العامة على الأقل لمستقبله   و لنوعية حياته المقبلة . وبذلك يكون المشروع الدراسي سفرا في الزمن أهم محطّه له بإطلاق هي محطة التوجيه الـدّراسي التي يتمّ خلالها الربط بين كل الأخريات ؛ ويضمن التوفيق خلالها الجــزء الأوفــر مــن حظوظ نجاح المشروعين الآخرين ، أي المهني و الحياتي . و لمّا كانت المسألة على هذا القدر من الأهميّة فإن مسؤولية صياغة المشروع الدّراسي للتلميذ و كذلك متابعته و إسناده لضمان نجاحه ، تكبر هي الأخرى و تصبح أكثر إحراج . إنّها أوّلا مسؤولية التلميذ الذي عليه أن يتخذ سلسلة من القرارات الخاصّة بمستقبله و أن يمتلك مشروعا متكاملا بكلّ مستوياته يكون له المرجع و الهدف و الحافز الذي يدفعه باستمرار إلى الأفضل و أن يصوغه بكل موضوعية و بوعي عميق بذاته بعيدا عن التخيّلات المثالية وعن المستحيل . وهو ما يستدعيه إلى إدراك حقيقة إمكانياته و الكشف الدقيق عن واقع قدراته الجسدية و الفكرية و النفسية للتنبوء ما يمكن أن تخوّله له و أن تمكنه من بلوغه ، حتى يدرك منذ البداية إن كان هذا المشروع قابلا للإنجاز و التجسيم .
غير أن عملية إنضاج المشروع الدراسي و هيكلته واكتماله لا يتحمّل وزرها التلميذ بمفرده ، بل يمثل ذلك " رهانا يجب أن تتجنّد له عديد الأطراف : المراهق ، الولي المربّي ، مرشد التوجيه و بشكل عام كل شخص يمكن أن يكون مثريا له . و تكون المفارقة هنا أن المشروع الفردي ليس فرديا بالمعنى الذي يمكن أن توحي به المفردات " [12] إذ للوسط تأثير متأكد أقله " أن التلميذ الموجود في وسط يسير أو يعمل وفق مشاريع فإنّه سيتبنّى هذه الطريقة في السلوك " [13] من تلقاء نفسه و يكون دور الكبار هو المساعدة والمشورة و العون على تجاوز حالات التردد ، لكن دون أن يتحوّل ذلك إلى الإختيار عوضا عن التلميذ أو إلى إملاء إختيارات معاكسة لرغبته وغير متماشية مع إمكانياته كما يعمد إلى ذلك بعض الأولياء الذين يرون في توجيه أبنائهم فرصة قد تؤدي إلى تحقيق حلم شخصي طالما راودهم ، غير واعين أن ذلك قد يؤول بأبنائهم إلى الفشل . إن المطلوب هو توفير إطار يكون فيه التلميذ فاعلا ، واعيا بحقيقة وضعه ، قادرا عى تحديد إختياراته إنطلاقا من إعلام يمكنه من تطوير أفكاره ، و من تصحيح أخطائه و من المرور بأكبر سرعة ممكنة إلى الإستشراف إلى المشروع ... الذي عليه أن يأخذ بعين الإعتبار الأهداف التي تتبنّاها و تسعى من أجلها المجموعة بأسرها . و المطلوب كذلك هو الإعتناء بالقدرات و الإنتظارات الحالية للشاب . و هذه القاعدة تنطبق على المعلومات حول المهن و الدروس أو الشهائد التي تمكّن من الظّفر بها "[14] .
و بهذه الكيفية يحصل التفاعل الإيجابي بين الطموح الشخصي الذي يتهيكل في مشروع دقيق التخطيط وبين ما يوفره المحيط من ثراء ومن حوافز فيكون التوافق بين ما وقع التخطيط له وما وقع إنجازه أو ما ينتظر إنجازه مستقبلا وهو ما يعني نجاح المشروع ، ونجاح الإستراتيجيات التي وقع ضبطها لتحقيق الأهداف المرسومة غير أن هذا التوافق المنشود ليس دائما مضمونا ، إذا أن الفشل يبقى مخيّما دائما و في أية لحظة على المشروع ، وهو فشل ظرفي و عابر أحيانا أو هيكلي و نهائي في فترات أخرى وهو ما لاحظه "بــوتيني Boutinet " ، عندما أكّــد " أن المشروع هو بإستمــرار و طوال مسـاره خليط من النجاح والإخفاق "[15] .
ولئن تحدثنا عن شروط نجاح المشروع وما يستدعيه ذلك سواء من التلميذ أو من المحيط فإن الإخفاق أيضا يمكن أن يكون وليد تقصير من قبل أحدهما .
إنّ الإشكال يكمن في كون الفترة التي يطالب فيها الشاب عادة بتكوين مشروعه الشخصي ليست هي الأمثل بما أنّها تتزامن وفترة المراهقة التي تتخلّلها أيضا مرحلة تكوين الهويّة والوعي بالجسد إضافة إلى مراجعة أشكال العلاقة مع الآخرين ، فيتشتت بذلك إهتمام الشاب وكثيرا ما يعسر عليه التركيز وإدراك حقيقة إمكانياته وتحديد إهتماماته بدقّة و بشكل نهائي . و كثيرا ما وقف حائرا أمام عواطفه المتهيجة وأمام أحلامه اللآّنهائية ، وهو ما يمكن أن يمنعه من التحكم في الزمن الذي تستدعيه صياغة مختلف المشاريع إنه في هذه الفترة يحيا مشروعه بشكل مثالي ومستعجل ويسعى إلى الإنجاز المباشر والسريع وليس إلى إنضاج المشروع "[16] . وكل ذلك يؤدّي به إلى الإختيار غير الصّائب خلال عملية التوجيه التي سيمرّ بها وهي العمليّة التي من شأنها أن تحكم على مشروعه بالفشل الظّرفي وتكون الإنتكاسة . ومن التلاميذ في هذه الحالة من يتمسّك بنفس المشروع مصرّا على المواصلة فيه فيكون مضطرّا إلى قبول الإستمرار في نفس القسم وإعادة السنة السادسة كاملة إقتناعا منه بأن المواصلة في نفس الإختيار والإلتزام بالتوجيه الذي كان قد حصل عليه سيمكنانه من تجسيد أحلامه و من تحقيق مشروعه .لكن هناك من يعمد إلى إعادة النظر في هذا المشروع ، فيتخلّى عنه كليا أو عن بعض جزئياته أو يحاول تحقيقه عبر إختيارات ومنافذ أخرى ويتقدّم بسبب ذلك بطلب إعادة التوجيه .
وبذلك تكون عملية إعادة التوجيه وثيقة الصّلة بالمشروع المدرسي إذ أنها تمثّل فرصة لتعديله و لمزيد إحكام صياغته و تهذيبه بعد أن بانت للمعنيّين بعض الثغرات و مواطن الضعف فيه ، أو فرصة للتخلّي عنه بعد أن ظهر ضعفه ولا واقعيته واستبداله بمشروع آخر عمليّا أكثر ومراع لإمكانيات التلميذ الحقيقيّة ولما يمكن أن تخوّله له قدراته .
وكل ذلك يجعل من عمليّة إعادة التوجيه مرّة أخرى ضرورة وسلوكا رائدا ينضاف إلى مجمل إيجابيات النظام التربوي و يدعمها .
وهو ما يزيد مجدّدا في ثقل مسؤولية الجميع في المؤسسة التربوية إضافة إلى المشرّع و الولي ، إذ يكون التلميذ في هذه الوضعية في حاجة أكبر إلى دعمهم ومساندتهم و تشجيعهم ، و منهم يحتاج خاصّة إلى التعلم أن للأزمات شكلها الإيجابي أيضا إذ أنها تمكن من التنبّه إلى مواطن الضّعف و إلى السلبيات وعبرها تكون إعادة البناء والصّياغة على دعائم أكثر صلابة وأوفر حضوظ للنّجاح . إن فشل المشروع الدّراسي أو تعثره يوفّر فرصة تساؤل وإثارة للعمل دون أوهام ، وتكون إعادة التوجيه منطلق إعادة هذا البناء وفرصة لإستغلال هذا الوعي الجديد وتوظيفه بشكل مفيد .



محمد رحومة

مستشار عام في الإعلام والإرشاد والتوجيه المدرسي والجامعي
المندوبية الجهوية للتربية بقابس ... 2012



المراجع :


[1] - Petit Robert – p 1668
[2]  -  بلقاسم بن سالم : التعليم العصري ونظام التوجيه في تونس ، نشر مركز الدراسات والأبحاث الإقتصادية والإجتماعية ، ص 290 ، 1988
[3]  - بلقاسم بن سالم : نفس المرجع السابق ص 291
[4]  - نفس المرجع السابق ص 291
[5]  - نفس المرجع السابق ص 291
[6]  - المنشور عدد 20 / 93 ص 4
[7]  -  Dictionnaire Encyclopédique de l’éducation et de la formation ;éd.Nathan 1994 - p:802 article : Projet , Françoise Cros
[8]  - Odile Carré : Groupes et Processus d’orientation ; O.S.P N°2 1991 - p: 193
[9]  - Jean Pierre Boutinet : Anthropologie du Projet - 3ème éd. PUF 1993 p: 233
[10]  -  Françoise Cros   مرجع سابق ص803
[11]  - J.P. Boutinot  مرجع سابق ص 91
[12]  - Dictionnaire Encyclopédique de l’éducation et de la formation ;éd.Nathan 1994 - p:802 article : Projet de André Philippe p:809   
[13]  - Richard Etienne : Projet individuel de l’élève p: 372
[14]  - المرجع السابق
[15]  - مرجع سابق J.P.Boutinet ص263
[16]  - مرجع سابق Odile Carré  ص 186 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire