قول في التوجيه الجامعي
لقد عودتنا جريدة الصباح ، على مر السنين
وبتتالي أعدادها ، بالمقالات الجيدة والمتميزة بالعمق والرصانة والكثير من الإضافة
والاجتهاد . ومقال الأخ ع . ز الوارد
بالصفحة الثانية من عدد يوم الثلاثاء 17جوان 2008 " عن التوجيه الجامعي
لحاملي باكالوريا هذه السنة " وإن كان متصفا بالعديد من هذه الصفات ، فإن
جانبا كبيرا مما ورد به يستدعي التوضيح والمراجعة .
فصحيح " أن جملة التطورات التي
شهدها التعليم في تونس خلال السنوات الأخيرة ، قد أفرز مظاهر أخرى تتعلق بما بعد
النجاح ، وتتصل بالتوجيه الجامعي واختيار الشعب وغيرها من الجوانب المتصلة بهذا
البعد ... " كما ورد بالمقال المذكور . وصحيح أيضا أن " الإصلاحات
التربوية والهيكلية التي عرفتها الجامعة التونسية ، وخاصة سرعتها وتواترها كان صعب
القبول من طرف المجتمع الذي مازال ينظر إلى التعليم والحياة الجامعية والشعب
التعليمية العالية باحتراز كبير ، ويتشبث بمسارها القديم المألوف منذ عشرات السنين
" .
أما القول بأن " عقبة التوجيه
تبقى أكبر اليوم بالنسبة للناجحين ، والخوف من خيبتها أشد وقعا على القلوب "
فإن فيه الكثير من التهويل والمبالغة ، التي نخشى أن تترسخ في أذهان أبنائنا
التلاميذ ، خاصة عندما توردها جريدة مثل " الصباح " لما تتميز به من
المواصفات التي ذكرنا .
فالتوجيه الجامعي ليس امتحانا حتى نتحدث عنه بمنطق العقبة والخيبة ، بل هو
مرحلة في الحياة المدرسية لا يبلغها إلا الناجحون والذين تمكنوا من اجتياز
العقبة الحقيقية ، أي الباكالوريا . وهو في جوهره عملية تنظيمية عادية تستدعيها
المراحل اللاحقة من المسار الدراسي الذي يتواصل في الجامعة . ولا يتطلب مواصفات
خارقة للعادة ، بل الموضوعية والتركيز وفهم الذات والقبول بها ، أي بكل ما لها من
مؤهلات وإمكانيات وملكات نجاح في هذا الإختصاص أو ذاك .
التوجيه الجامعي هو توزيع للتلاميذ الناجحين في الباكالوريا على مختلف شعب واختصاصات
التعليم العالي وفق مجموعة من المعايير والشروط الواضحة للجميع . وهو عملية تلجأ
إليها كل الأنظمة التربوية الحريصة على الشفافية والعدل بين أبنائها والمحترمة لهم
. أما أن يكون هذا الإجراء معقدا أو بسيطا فذلك يرجع حسب رأينا إلى وفرة عدد
التلاميذ الناجحين والراغبين في الإلتحاق بالتعليم العالي وإلى كثرة المؤسسات
الجامعية بالبلاد والتنوع الكبير في الإختصاصات التي تقترحها على المترشحين . وكل
هذه العناصر متوفرة ببلادنا ، والحمد لله
، ومع ما لها من إيجابية فهي تفرز أحيانا بعض الصعوبات .
وكذلك القول بأن " النجاح لا يعني الكثير ما دام لا يحصل بامتياز
" لا نقبل به أيضا . لأن النجاح دائما جيد ومطلوب من طرف الجميع ، تلاميذ
وأولياء ومؤسسات تربوية . هو جيد لدعم المعنويات ، وغرس الثقة بالنفس والرضا عن
الذات والإقتناع بالقدرة على تحدي الصعاب والمضي قدما . أما الإمتياز فهو مشترط في
بعض الشعب التي تستدعي مؤهلات ذهنية كبرى ولا توفر عددا كافيا من المقاعد حتى
تستجيب لكل الطلبات التي بدأت تتكاثر في السنوات الأخيرة ، نتيجة ما شهدته
المنظومة التربوية من تحسن كبير انعكس ايجابيا على ارتفاع عدد المتميزين من
التلاميذ بما زاد من حدة المنافسة بينهم .
وهذه الشعب هي بالأساس من الإختصاصات
الطبية والهندسية التي تستدعي مجموعا مرتفعا ، سواء منها التي تدرس بتونس أو
بالخارج عبر البعثات الدراسية التي ترسلها وزارة التعليم العالي سنويا في إطار
تعاونها مع المؤسسات العلمية المشهورة لبعض البلدان .
أما بقية الاختصاصات فهي مفتوحة للجميع والالتحاق
بها ميسر لكن على أساس التناظر بالطبع ، وفق الشروط والمقاييس التي يعلمها كل
التلاميذ منذ بداية السنة الدراسية عبر الأساتذة المكلفين بالتوجيه الموجودين بكل المعاهد
وعبر تدخلات مستشاري التوجيه المدرسي والجامعي العائدين بالنظر إلى الإدارات
الجهوية للتربية والتكوين . ويقع تذكير التلاميذ بكل المعطيات في نهاية السنة خلال
مواعيد رسمية كثيرة وفي أدلة ضافية يتسلمون بعضها حتى قبل إجتيازهم إمتحان
الباكالوريا ذاته .
لذلك لا يمكن أن نقول أن " نتائج
التوجيه قل أن تكون حسب رغبة التلميذ وميولاته الدراسية " بل هي لا تكون إلا
كذلك ، أي وفق رغبته وميولاته ، ووزارة التعليم العالي لا تسند إختصاصا لأي تلميذ
ما لم يرغب به وما لم يسجله على بطاقة إختياراته . وهذا نقوله لطمأنة أبنائنا
التلاميذ وبشكل قطعي . أما أن يحصل المترشح على اختياره الأول أو الثاني أو الأخير
، فذلك يكون بالتأكيد حسب الجدارة ووفقا لمدى إثباتها خلال عملية التنافس والتناظر
مع الآخرين . وما على التلميذ إلا أن يحسن الإختيار وفق ما له من إمكانيات
للمنافسة الناجحة يتفطن لها من خلال التمعن في أعداده ومعدلاته ومجموع نقاطه وفي
طاقة الإستيعاب المتوفرة أو المتبقية بالمؤسسة التي يرغب في الإلتحاق بها ، ثم
عليه أن يحسن ترتيب هذه الرغبات أيضا .
أما القول بأن شعب التعليم العالي يفوق
عددها 700 شعبة وأن التلميذ لا يقدر على استيعابها في الإختيار عند التوجيه ، فأنا
أوضح أن كل تلميذ مطالب بمعرفة واستيعاب الشعب المفتوحة لاختصاصه بالأساس والتي
تعنيه هو مباشرة ولا داعي بأن يضيع الوقت في تقليب البقية ، وعندها ستصبح العملية
يسيرة جدا لأن السبع مائة شعبة تهم كل الإختصاصات في الآداب والرياضيات والعلوم
التجريبية والعلوم التقنية والإقتصاد والتصرف وعلوم الإعلامية ، وما حاجة تلميذ
الآداب لأن يبحث في الإختصاصات التقنية مثلا وهي غير مفتوحة له ؟
وعكس ما ذهب إليه صاحب المقال من أن
" الوسط الإجتماعي وحتى التربوي لا يقدر أيضا على مساعدته في هذا الجانب
" ، فأنا أقول أن هذين الوسطين يوفران للتلميذ كل ما يحتاجه للوصول إلى تحديد
إختيار موفق . وما عليه إلا أن ينتبه لوسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية
ويواكب ما تقدمه من حصص ومن برامج ومواضيع مخصصة للتوجيه الجامعي وللحياة الجامعية
دون استثناء ، وهذه الأنشطة عادة ما تنطلق مع إعلان نتائج الباكالوريا وتتواصل على
مدى العطلة الصيفية .
كما عليه أن يستفيد أيضا مما توفره
وزارة التربية والتكوين للتلاميذ عبر مكاتب الإرشاد والإعلام والتوجيه المدرسي
والجامعي الموجودة بكل الإدارات الجهوية من دعم ومرافقة ومن معلومات يؤمنها له
مختصو هذا المجال الذين دأبوا سنويا على تنظيم الحملات الإعلامية الموجهة للناجحين
في الباكالوريا ولأوليائهم بكل المعاهد ، مهما بعدت عن مراكز المدن . يقدمون
النصائح والتوجيهات ويفسرون للتلاميذ سبل الإختيار الموفق ويوزعون عليهم الأدلة
والمطويات الضافية . كما يستقبلونهم بمكاتبهم ويضعون على ذمتهم كل الوثائق خلال
دورات التوجيه الجامعي كلها .
أما وزارة التعليم العالي وعبر الإدارة
العامة للشؤون الطالبية ، فقد دأبت هي أيضا وسنويا على تنظيم الأيام الوطنية
للتوجيه الجامعي ، تستدعي لها المختصين من كل المؤسسات الجامعية في كل جهات البلاد
، ومن مكاتب الإعلام والتوجيه المدرسي والمهني والعسكري . كما تقيم خلالها
المحاضرات وتوزع الأدلة وتقدم المعلومة المطلوبة وتوفر كل أنواع المساعدة . ولقد
زادت المواقع الإلكترونية المختصة التابعة للإدارة العامة للشؤون الطالبية www.orientation.tn ولوزارة التعليم العالي www.mes.tn ولكل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من تقريب المعلومة للتلاميذ ، في
أدق تفاصيلها وأبسطها .
ويبقى للتلميذ فقط أن يزور هذه المواقع ، أن
يتردد على هذه التظاهرات ، أن يطلع على كل الوثائق بتمعن وأن يتصل بأهل الذكر حتى
يساعدوه على فهم ذاته وعلى تقييم حظوظه وفق ما له من مواهب ومؤهلات وإمكانيات
ذهنية ومادية واجتماعية وصحية . لأن الإختيار الناجح هو فقط الذي يكون وفق هذه
المعطيات إذ المؤهلات المذكورة وحدها تضمن التوجيه الموفق وبالتالي النجاح والتميز
، وهو ما يستوجب ضرورة الإقلاع عن مطاردة الأمنيات والأحلام التي لا سند لها في
الواقع المعيش للتلميذ . وهنا يكمن مشكل التوجيه الجامعي الذي تغذيه عادة مواقف
بعض الأولياء المتصلبة وأمنياتهم الذاتية ومعارفهم المغلوطة بالواقع وبالمستجدات
التربوية والمهنية ، فيعمدون إلى فرض آرائهم على منظوريهم وإلى التعسف على
اختياراتهم مستهينين بمؤهلاتهم الحقيقية ، ويزجون بهم بالتالي في متاهات كثيرا ما
يعسر عليهم الخروج منها بعد ذلك .
مع اعتذاراتي وأطيب تحياتي لأخي وصديقي الصحفي الذي جاء اجتهاده مصيبا في عديد النقاط
والجوانب وكان له أيضا شرف السبق في إثارة هذه المسألة الجامعية الهامة جدا بما
أتاح لنا فرصة التعقيب عليها بهذه الملاحظات ، والله ولي التوفيق .
محمد رحومه
مستشار عام في الإعلام والتوجيه
المدرسي والجامعي
الإدارة الجهوية للتربية والتكوين
بقابس - 2008