dimanche 11 juin 2017

متابعات تربوية

ملاحظات تربوية متناثرة


الملاحظة الأولى :
عرفت العشريات الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي عديد المستجدات العلمية والتكنولوجية التي أنتجت المجتمع الجديد ، مجتمع المعرفة والذكاء ، مجتمع الإقتصاد اللامادي والأنشطة والتعاملات الإفتراضية . وانعكس ذلك عمليا على المستوى التربوي المحلي ببعث شعبة تكنولوجيا الإعلامية في التعليم الثانوي ، ولو بشكل متأخر نسبيا ( بعد سنة 2000 ) ، إضافة إلى عديد الإختصاصات في الإعلامية وفي الرقميات بالتعليم العالي . من ذلك مثلا أن عدد الاختصاصات في الإعلامية والملتيميديا المدرسة بالتعليم العالي سنة 2003 – 2004 قد تضاعفت بأكثر من أربعة وعشرين مرة في ظرف عشر سنوات فقط أي عما كانت عليه سنة 1995- 1996 ، وتبين لنا من خلال المقارنة بين دليلي التوجيه الجامعي لهتين السنتين المذكورتين ، أن الرقم مر من اختصاصين هما الإعلامية والإعلامية في التصرف إلى أكثر من سبعة وأربعين اختصاص استقطبت سنة 2004-2005 أربعة وثلاثين ألف طالب أي بنسبة 10.8 % من العدد الاجمالي للطلبة آنذاك .
أما الآن ، فيبدو أن هذا الإختصاص قد امتلأ وأشبع إلى حد الإكتظاظ والكساد فقلت فيه الفرص . وبالتوازي نقص الإقبال على شعبة تكنولوجيا الإعلامية بشكل كبير وملحوظ لينحصر في السنة الدراسية الفارطة 2014 – 2015 في حدود 10.25 %على المستوى الوطني من مجموع تلاميذ السنة الأولى ثانوي و5.83  %بالسنة الثانية . بل تنزل النسبة على المستوى الجهوي عن المعدل الوطني الخاص بالسنوات الأولى بثلاثة عشر مندوبية لتصل إلى 4.89  %بسوسة و5.13  %بصفاقس 1 و5.89  %بصفاقس 2 و6.71  % بسليانة ... إلخ .
واعتاد المختصون تفسير ذلك بالقول أن هوية هذا الإختصاص غير واضحة للتلاميذ الذين لم يدركوا جيدا أنه اختصاص علمي بحت وليس تقنيا ليفاجؤوا بقيمة الرياضيات والفيزياء في دراسته وضرورة التميز فيها لاستيعاب الخوارزميات والبرمجيات مثلا . كما أن المقبلين على هذا الإختصاص هم التلاميذ ضعاف النتائج وأصحاب المستوى المحدود في المواد العلمية المميزة .
لكن يبدو أن تشخيصاتنا هذه غير صائبة بما يجعل التوجيه المدرسي غير مواكب للسياق العام الذي يفكر داخله التلاميذ ، وهو سياق المهن والتشغيلية والآفاق التي مازالت متاحة في سوق الشغل لخريجي هذا الإختصاص . أي أن عزوف التلاميذ عنه مبني على فهم صحيح وواقعي لسوق الشغل ، بينما تشخيصاتنا بقيت حبيسة المؤهلات والإمكانيات والقدرة على استيعاب المواد . وهو ما يؤكد عدم تناسق تنظيراتنا مع تفكير التلاميذ والأولياء ، مما يحتم علينا السعي الجدي لتصحيح ذلك .  

الملاحظة الثانية :
يؤكد الباحثون أن 50  %من المهن الحالية على الساحة العالمية لم تكن موجودة لعشرين سنة خلت ، .... وكذلك 50  %من المهن المستقبلية غير معروفة اليوم .
وهذا يعني أن مواطن الشغل تولد وتموت شأنها شأن أية ظاهرة حياتية وأن المهن والوظائف تتوالد حسب مقتضيات العصر ومتطلبات الحياة ، بل هي تتطور وتتغير أيضا وتوظف التكنولوجيات الحديثة ، وبذلك فإن ما بقي منها تتغير فيه هو كذلك نسبة المعرفة في إنجاز المهن . والأسئلة المطروحة هنا هي : كيف نرشد التلاميذ في هذه الحالة ؟ وما هي قدرة الموجهين بمختلف أسلاكهم ، أساتذة كانوا أم مستشارين ، على تمثل المستقبل المتخفي وراء انجازات وابتكارات علمية وتكنولوجية متسارعة ؟ وهل لمراكز بحثهم ، إن وجدت أصلا ، القدرة والإمكانيات على تتبع مختلف المنافذ المفتوحة على المستقبل ... ؟ وهل هنالك أمل في إحداث مثل هذه المراكز مستقبلا ؟ وهل هنالك تعاون مع بقية الأطراف المعنية يمكن التعويل عليه لتغطية هذه النقائص ؟
في كل الحالات ، لا يجب أن يكون خطاب التوجيه والإرشاد مضللا ولا أن يزرع الوهم في عقول المسترشدين بل أن يكون واعيا بحدوده ... أي على التوجيه التركيز على دفع التلميذ إلى تطوير إمكانياته ومؤهلاته وأن يغرس لديه الطموح والأمل والدفع في اتجاه النجاح الإجتماعي أيضا .

الملاحظة الثالثة :  
مجال الشغل المستقبلي ، مهما كان قديما أو مستحدثا ، ستكون أسسه المعلومات والمعرفة ، أي أن دخوله والإستفادة منه والنجاح فيه سيكون مرتهنا بنوعية التكوين الذي يتلقاه الطلبة حاليا بالمؤسسات التربوية على اختلافها وبمدى تأهيلهم لذلك وتوفير فرص اختيار التخصصات المناسبة ... وهنا تبرز عديد الحقائق الهامة مثل :
 1 – مسؤولية الإصلاح التربوي المزمع إقراره في ضمان التأهيل المطلوب للتلاميذ .
 2 – قيمة الإختصاصات العلمية والتكنولوجية للولوج إلى هذا الواقع الجديد المبني على الرقميات وعلى البرمجيات والهندسة ... الخ وبالتالي قيمة التميز في الرياضيات والفيزياء وفي اللغات الأجنبية التي كتبت بها والضامنة لاستيعابها .... وهذه مواطن ضعف التلاميذ وأسباب احتلال منظومتنا التربوية المراتب الدنيا في جميع التقييمات العالمية . وهذه مسؤولية أخرى للإصلاح التربوي أيضا المطالب بالمعالجة الناجعة لهذه النقائص .

الملاحظة الرابعة :
من إفرازات الربع الأخير من القرن الماضي ، بما شهده من إقبال كبير على الإعلامية والإلكترونيك وعلى التكوين في الرقميات بشكل عام ... ، العزوف عن الإختصاصات التقنية المعهودة وبشكل مزدوج ، من المتكونين ومن المكون أيضا ، أي من الدولة التي ألغت هذه الإختصاصات وفرطت في الورش وغيرت صفة المعاهد الفنية وكلفت المكونين بمهام إدارية ومكتبية بعيدة عن اختصاصاتهم . ونتجت عن ذلك مساوئ مزدوجة أيضا : بطالة في الإختصاصات المستحدثة ( إلى حد التخمة في اختصاصات المالية والمحاسبة والإعلامية والكيمياء ... إلى غيرها من الإختصاصات البيوطبية التي لا حظ لها في سوق الشغل ولا حاجة اقتصادية واجتماعية كبيرة لها ) ....  مقابل نقص حاد أصبحت تعانيه هذه السوق حاليا في اليد العاملة المختصة وفي الكوادر الفنية المتوسطة في جميع الإختصاصات تقريبا ( من البناء إلى الكهرباء إلى اللحام والنجارة والميكانيك والتركيب المعدني والفلاحة والصيانة .... الخ ).
وبالتالي فإن حبل النجاة المتاح حاليا للجميع ، طلبة ومسؤولين ، يكمن في إحياء هذه الإختصاصات المهملة ، بروح جديدة بالطبع وبرؤية معاصرة ومتطورة . وبهذا فإن العودة للتعليم التقني وإحداث باكالوريات مهنية وربط التعليم والتكوين بالحاجيات الفعلية للبلاد وبمخططاتها التنموية ، تمثل جميعا ضرورة ملحة لا مفر منها ، وهو ما يجب أن يضطلع به الإصلاح التربوي أيضا وأن يستعد له الموجهون من الآن على جميع الأصعدة ( فهم هذه الإختصاصات وحصرها وضبط مقاييسها وتوفير ما يلزمها من أدلة ووثائق ودراسات ... ) فتلك هي بوابة الخروج من مطب البطالة التي تعاني منها البلاد الآن ونغصت على الجميع ...  

الملاحظة الخامسة :
التكوين الجيد والصلب والمتكامل للتلاميذ بما يؤهلهم فعليا للإستجابة للواقع المستحدث ولروح العصر يستدعي ضرورة التكوين المتوازن المبني على الجانبين النظري والعملي التطبيقي الذي يوفر الفرصة للتلميذ لاكتساب المهارات اليدوية ولمعرفة سبل التخطيط والإعداد والبرمجة الفعلية واختبار مدى نجاعة ما برمج له ، وهذا يستدعي تطوير التعلمات بما يجعل التطبيقي منها أساسيا منذ المراحل الأولى للتعليم ، وذلك تضمنه مقاربة العمل بالمشروع والتعلم عبر الممارسة والإنجاز وليس بالبيداغوجيا التلقينية القديمة .
ورغم ذلك تفاجؤنا الوزارة بإلغاء مادة إنجاز مشروع التي يمكن أن تفي ولو جزئيا ببعض هذه المتطلبات البيداغوجية المنشودة ، غير مكتفية بما خصتها به من تهميش أبقاها ضمن المواد الإختيارية التي تدرس في نهاية المرحلة الثانوية ، وليس منذ المرحلة الأساسية كما هو مطلوب .
والأدهى من ذلك أن قرار الإلغاء هذا جاء ضد التوجه الوطني العام الذي أوصت به لجان الإصلاح التربوي والذي أكدته قبل ذلك الإستشارة الوطنية حول مادة إنجاز مشروع التي أوصت بتطوير هذه المادة ومعالجة ما ظهر في تدريسها من عيوب وليس إلغاؤها كليا بهذا الشكل المفاجئ الذي أعلن مؤخرا .    

الملاحظة السادسة :
التحولات في عالم الشغل وفي مختلف العلوم والتكنولوجيات أوجدت ما أصبح يعرف بالتعلم مدى الحياة بفعل الحاجة إلى تجديد التكوين وتعهد المعارف الشخصية والمكتسبات العلمية باستمرار عبر الرسكلة وإعادة التأهيل . وهذه مسؤولية أخرى للمؤسسات المعنية رغم كون ذلك سيثقل كاهلها ، ويزيد من جسامة مسؤولية الإصلاح التربوي مرة أخرى .  

الملاحظة السابعة :
في نهاية القرن الماضي شهدت فرص التشغيل زيادة ملحوظة فعلا في قطاع الإعلامية والإلكترونيك والخدمات ( قطاع البنوك - التأمينات - النقل - المواصلات - الخدمات الموجهة للمؤسسات ... ) وكل هذه الأنشطة لها ارتباط وثيق بتقنيات المعلومات والإتصال . ولكن جميعها تعاني الآن مصاعب جمة في التشغيل ببلادنا بعد أن أصبحت سوق الشغل عاجزة عن استيعاب كل الوافدين عليها من هذه الإختصاصات ...... لذلك تبدو الهجرة إلى فضاءات خارجية ، عند عديد الباحثين والمخططين ، جزءا من حل مشكلة البطالة التي يعاني منها الشباب .
في الدول المتقدمة هنالك أيضا ارتفاع متواصل في عدد العاملين في الخدمات الإجتماعية الموجهة للفئات الخصوصية كالمسنين والمعوقين والأطفال نظرا للحاجيات الأسرية الجديدة الناتجة عن شيخوخة هذه المجتمعات وعن خروج الجميع للعمل بما في ذلك كل النساء ، وهي السمات بمهن الجوار .... وهذا معطى هام كذلك  


محمد رحومة

مستشار عام التوجيه المدرسي والجامعي 
المندوبية الجهوية للتربية بقابس 
- مارس 2016