vendredi 15 mars 2024

التوجيه المدرسي ومستجدات الذكاء الإصطناعي

 


التوجيه المدرسي ومستجدات الذكاء الإصطناعي

 

تتواتر التطويرات التكنولوجية والرقمية وتتكثّف بشكل سريع جدّا تسربت معه تطبيقاتها إلى جميع الميادين التقنية منها والعلمية والطبية والإدارية والمالية والإنسانية أيضا ، وبلغت درجة من التعقيد والتدقيق أصبحت معها تحاكي العمليات العليا للذهن البشري مثل التفكير والحوار والإستشراف وقراءة الأفكار ولم تعد تكتفي بالنطق والترديد فقط . فأصبحت بذلك أكثر قربا من الإنسان وألطف إلتقاء به لكن أخطر أيضا على عمله وأنشطته المهنية خاصة منذ إرتقاء تطبيقات الذكاء الإصطناعي الأخيرة إلى مستويات مذهلة جدّا ، مع روبوتات التشات بوت chatbot أو روبوتات المحادثة القادرة على التفاعل المباشر مع البشر بالحوار وبالإجابة على الأسئلة وأشهرها روبوت شات جي بي تي chatGPT الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط العلمية والإجتماعية منذ تصنيعه في أواخر سنة 2022 . وأصبح استعماله خطيرا على عديد الأنشطة والمهن بما فيها المهن الإستشارية كالتوجيه والإرشاد مثلا ، التي أصبح استبدال الأشخاص فيها بالروبوت ممكنا ، فتسبب بذلك وبما يتيحه أيضا من إمكانيات للغش والتحيّل في " زوبعة كونية غير مسبوقة "(1) ، ممّا أدى إلى ابداء عديد الحكومات والمؤسسات الرسمية مواقف محترزة منه وأُطلقت ضدّه حملات المطالبة بإيقاف إستعماله وبضبط قواعد توظيفه السليم  . فهل تكون لهذا الروبوت تأثيرات على التوجيه المدرسي تؤكّد مخاطره عليه أو ترسم منافذ استفادته منه ؟ وما هي سبل التعامل الأفضل معه والإستغلال الأجدى لما يتيحه من فرص لتطوير أنشطة هذا التوجيه ؟

ارتقت النسخ الجديدة من تطبيقات الذكاء الإصطناعي إلى مستويات عليا ومتقدمة جدّا من الآداء جعلتها قادرة على المحادثة مع مستخدميها بشكل تفاعلي مباشر وهو ما اختصّت به روبوتات الحوار وخاصة منها روبوت شات جي بي تي chatGPT الذي بلغ حاليا نسخته الرابعة . فهو قادر على الحوار " بأكثر من 95 لغة من ضمنها اللغة العربية ، وله قدرة على الردّ على الأسئلة الموجهة إليه ، بما في ذلك القراءة والتلخيص وحل المسائل الرياضية وإنشاء مناهج لدورة تدريبية ما ، وشرح المفاهيم المجرّدة وإنشاء الأكواد البرمجية وكتابة أنواع مختلفة من المقالات والتقارير ، بالإضافة إلى أنه يقوم بكتابة مقالات دراسية ، وينتجها بأسلوب مقنع وبلغة نابضة بالحياة ومماثلة لتلك التي يكتبها البشر .

إن ما يميّز شات جي بي تي chatGPT أنه يعطي الباحث الإجابة على سؤاله بشكل مختصر وواف وحل المسائل الرياضية والفيزيائية المعقدة وغيرها من العلوم بثواني وبدقة عالية "(2). وهو يستجيب لكل ما يطلب منه ويؤدّي كل الوظائف بإتقان . وهذا يفرض تحدّيات كبيرة على عديد المؤسسات خاصة منها التعليمية حيث يستعمل التلاميذ هذا الروبوت للغش والإحتيال والمؤسسات التشغيلية ، حيث يقوم بتعويض العمال والتسبب في بطالتهم ، إذ أنه صار قادرا على آداء مهامهم باتقان كبير ، بما في ذلك الأعمال الفكرية والذهنية كالإستشارات والإرشاد وليس المهام الآنية المعتمدة على ترديد مجموعة من الحركات المبرمجة . ومن هذا المنفذ يمكن أن تكون مهام مستشاري التوجيه ومختصيه وأساتذته مستهدفة حسبما يراه البعض . والمشكل هنا على وجه الدقة ليس في الذكاء الإصطناعي ، فالتوجيه المدرسي يستعمله بعديد تطبيقاته الرقمية من زمان ، لكن المشكل في المستجدات التي ظهرت أخيرا مع روبوتات الحوار منذ شهر نوفمبر 2022 .

فالتوجيه المدرسي في جانبه التفاعلي المباشر ، وليس التقني الآلي ، مبني بالأساس على الحوار والإستشارة ، يطمح من خلالهما إلى أن يصبح تربية على التوجيه عمادها التربية على المشروع والتربية على الإختيار وعلى اتخاذ القرار بما يجعله معتمدا للحوار بشكل رئيسي .  أما في جانبه التقني فهو سلسلة من الأنشطة ومن الأدوار التي تؤديها أطراف متعددة منها الإداريون كالإعلام بالمواعيد وإعداد البيانات وتجهيز الملفات ، ومنها التربويون كتقديم الوثائق التي سيقع إعتمادها وتوضيح محتواها وكيفية التعامل معها والإستفادة منها في تدقيق الإختيارات وكذلك التعريف بمواقع وبمواعيد تنزيلها وكيفية سحبها أو تعميرها عن بعد عبر تطبيقات ألكترونية معتمدة رسميا أو أخرى منزّلة على الشبكات الإجتماعية للدعم والمساعدة . وهنالك الطرف الآخر المتمثّل في سلك مستشاري التوجيه الذين تكون تدخلاتهم نوعية أكثر يملؤها التفاعل المباشر مع التلاميذ في لقاءات جماعية وفردية حول بناء المشروع الشخصي إعتمادا على ما يتوفر من محددات ذاتية وموضوعية كتقييم القدرات والإمكانيات والإهتمامات والميول ، وحول تمشيات اتخاذ القرار وحسم الموقف بواقعية وباقتناع بعيدا عن الطوباوية والتردّد المعطل لاستشراف الآفاق البناءة لهذا الإختيار ولهذا المشروع ، أي هم أكثر المشتغلين على التربية على التوجيه ذاتها .

ولئن تبدو أدوار الأطراف المذكورة في المقامين الأول والثاني ثابتة ودائمة ، فإن دور المستشار حسب بعض المتابعين صار قابلا لأن يختزل في تطبيقة ذكيّة تنزّل على هاتف تلميذ أو على حاسوبه ينتقيها من الأنترنيت من ضمن تطبيقات عديدة تُقترح عليه أو تُسوّق له . فهل في ذلك خطر على وظيفة المستشار أم فرصة لتطويرها وفتح آفاق جديدة أمامه تزيد من إشعاعه ومن شمولية تدخلاته ؟

يجزم البعض أنه " لن تكون للتوجيه مكانة استراتيجية مستقبلا ضمن هياكل الدعم المدرسي لتغيّر حاجيات الناشئة ولاشتغال الفضاء المدرسي بطريقة وبأهداف مغايرة لما نعرفه اليوم "(3) . إضافة إلى أنّ اعتماد الذكاء الإصطناعي يتنزّل ضمن دائرة كبرى من الوقائع التي مسّت المدرسة ووظائفها وأنشطتها في العمق كما مسّت العملية التربوية التي تدور داخلها برمّتها وليس التوجيه المدرسي فقط . إذ أصبح التكوين مركزا على غرس الكفايات لدى التلاميذ وعلى تطوير مهاراتهم فيها حسب مقاييس تستجيب لسوق الشغل المتحول باستمرار والذي يحبّذ اكتساب المهارات وامتلاك القدرة على الإنجاز وعلى مواكبة مسار الإنتاج المتواتر أكثر من التدرج في المستويات وتحصيل الشهائد التقليدية  . ولم تعد المعرفة العامة والشمولية هدفا ، ولا كذلك تنمية المعلومات وتحصيل تكوين عام متكامل . فالمعلومات صارت لها خزائنها الذكية الملأى والمحفوظة بإحكام . والمطلوب هو التعلّم ، أي اكتسابها ذاتيا على مدى الأيام وتحصيل القدرة على الإستفادة القصوى من مختلف البيئات المعرفية وليس التعليم المرتكز على ضخّ المعلومات وتلقينها للتلميذ بشكل عمودي . وهذا حوّل مركزة العملية التربوية من المعلّم إلى التلميذ المستفيد . وغيّر الإهتمام الشغلي من ضرورة الإحاطة بسلسلة الإنتاج المتواترة بكليتها إلى مهمّة محددة يؤدّيها العامل وتحتاج منه إلى مهارات مدقّقة ومحدّدة لا يستدعي اكتسابها مسارا دراسيا كاملا وسلسلة درجات يستغرق المرور بها السنوات الطويلة . بهذا تغيّرت علاقة الشغل بالمعرفة أو علاقة التكوين بالتشغيل وانحسر كمّ المعرفة الذي يحتاجه المتلقي ممّا سيؤثر على حضوره بالمؤسسة مدّة وكثافة وحجما ، ويؤثر بالتالي على الزمن المدرسي من جهة ، وعلى الفضاءات التربوية وعلى الأدوات المدرسية ونوعيتها من أخرى إذ ستتبوّأ فيها الأدوات الذكية المكانة الأولى . والأكثر من ذلك والأعمق أن هذا التأثير سيلحق أيضا بتمثل التلميذ لذاته ولإمكانياته ولقدراته على المواكبة ولمساره الدراسي ومساره المهني المستقبلي . لكن حتى إن كان الإرشاد متاحا له في التطبيقات الذكية وفي المنافذ الألكترونية ، فهل سيغنيه ذلك عن حاجته إلى مستشار التوجيه وعن ضرورة التواصل معه للإسترشاد ولتقييم عديد المسارات والمشاغل ؟

لا تبدو لنا الموافقة على هذه التساؤلات أكيدة ، فهل أن مجرد إكتشاف جديد في الذكاء الإصطناعي يجعلنا نستغني عن خطة وظيفية تربوية متأصلة ؟ ذلك لم يحدث سابقا رغم الكم الهائل من الإكتشافات التكنولوجية والرقمية التي جاءت إلى الميدان التربوي ، فالوظائف تطوّرت وتفرعت وأصبح كم المعرفة الذي تحوز عليه كبيرا ولكنها لم تلغ . وهل أن إجابة الروبوت الصوتية أو المكتوبة عن سؤال المستفسر ترتقي إلى مستوى الحوار وتستوفي أركانه حتى تأخذ مكان الحوار البشري ؟ هل في هذه الإجابة وعي وقصدية وتفاعل يجعلها تنضح بالمشاعر والحميمية أم مجرّد ردّ آلي جاف على استجواب يفتقد روح الحوار ومهجته ؟ نفرق عادة بين الإتصال والتواصل ونجعل التغذية الراجعة مقياس التمييز بينهما ودليل الإرتقاء من الإتجاه الواحد الأصم إلى الذهاب التفاعلي في الإتجاهين وإعطاء شحنة للقاء . أفلا يجب أن نفرّق هنا أيضا بين الإستفسار الآلي الموجّه للروبوت كفعل ميكانيكي أحادي والحوار كآلية تفاعلية بنفس المقياس أيضا ، أي مقياس التغذية الراجعة وما تختزله من التفاعل التعاطفي البشري ؟ وهل أن الروبوت يقوم بكل ما يقوم به المستشار فعلا وبنفس التوهج الإنساني الداعم للتواصل والمولد للأفكار بشكل تواتري متبادل ؟

الروبوت آلة تستجيب لفعل ميكانيكي وفق ما شُحنت به من آراء وأفكار وتوليدها للحوار محكوم بهذا الشحن دون أن يرتقي فعلها الآلي إلى فعل إنساني مستوفي الأركان كفعل  المستشار الذي يحاور وليس يجيب فقط ، أي يتبادل الدور مع المسترشد ويتولى هو السؤال ويعكس اتجاه الفعل الكلامي المستفسر . ثم هو يتابع ردود الفعل والتفاعل مع الفكرة أو الإجابة ويقرأ ما ارتسم من ذلك على ملامح الوجه وعلى بريق العينين وتلوّن البشرة وطلاقة الصوت وتموّجات النبرة . فللوجه لغته أيضا ومن خلالها يبني المستشار مواقف وردود أفعال وتغذية راجعة تدفع الحوار وتعيد إطلاقه في اتجاه مكامن أخرى ومسارب إضافية من شأنها أن تميط اللثام عن دوافع السلوك وأسبابه وتنير ظلال القول وضمنياته ، فهل يقدر الروبوت على ذلك حتى نجزم بأنه صار يلعب الدور العملي للمستشار . " مما لا شكّ فيه أننا أمام طفرة علمية في عالم التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي ... تتيح للطلاب تحسين تفكيرهم وإعطائهم الفرصة والمساحة للتفكير بشكل إبداعي والذي سيكون بالتأكيد مثمرا على المدى الطويل "(4) . أما أن تعوّض هذه التقنية المستشار كليا فهذا ما لا مبرر لمجرد التفكير فيه حاليا وحتى إن " أثبتت أنها توفر الكثير من الإمكانات وخاصة في المجال التعليمي ولكنها تحتاج إلى التنظيم كغيرها من التقنيات حين أختراعها "(5) وتحويلها إلى فرصة للإستفادة الفعلية . أما فوضى الكفايات وتداخلات المهارات وتقاطعاتها مع الإمكانيات والميول ومسالك الدراسة والتشغيل فمازالت وستظلّ محتاجة إلى حوارات عميقة وتبادل للأفكار وسبر لأغوار النفس وكشف مراكز إهتمامها . فهي ليست تطبيقات خوارزمية تنزّل بحاسوب يديرها ميكانيكيا بل لا يقدر عليها إلى حدّ الآن إلا المستشارون الفعليون وتخرج عن كفاءة التطبيقات الذهنية واشتغال الروبوتات التي لا تستحضر تنوّع مهن المستقبل ومختلف المسالك المؤدية إليها ، ولا تحلل الشخصية باهتماماتها وميولها لتقدم توصيات ومقترحات دقيقة لها كما لا تربط العلاقة بين المسترشد والمهنيين للحديث عن مسارهم وتعرّجاته واشتراطات النجاح فيه ، لذلك فإنّ زمن تجاوز المستشار لم يحن بعد ، وقد لن يطرح ذلك أبدا في المدى القريب خاصة وقد اتضح أن " تشات مازال يقترف العديد من الأخطاء وحتى البدائية منها لأنه لم يسبق أن تمّ تدريبه عليها كفاية بما يفرض ضرورة التحرّي والحذر فيما يقدمه من معلومات ومقترحات ونصوص "(6)  بل أحيانا قد تكون " إجابته جديرة بأن يسند لها صفر لو أتاها تلميذ في فرض كتابي "(7). والتشابه المؤكد الآن بين ما ينتجه تشات جي بي تي وما ينتجه البشر حسب الإختبارات الدقيقة التي أجريت عليه هو في الشكل أكثر منه في المضمون أي في الصياغة وفي القيمة اللغوية لهذا الخطاب الذي يصوغه بلا أخطاء موحشة أمّا المضمون فيجب الحذر منه كثيرا "  مما دفع بمؤسّسيه ومطوّريه أنفسهم إلى المطالبة بتعليق استخدامه لفترة 6 أشهر على الأقل أمام كمّ الإزعاجات والإرباكات المسجّلة وهو مازال في خطواته الأولى "(8) . ويبقى الروبوت في كل الحالات آلة يصنعها الإنسان ويدرّبها بنفسه ويشحنها بمعلوماته وبمحتوى هو من يوجده ومن يتحكم فيه وفي كمّه وفي نوعيته . ولم يخسر الإنسان إلى حدّ الآن أي من تعاملاته مع الآلة وظل يديرها دائما وفق حاجياته ووفق مقامه في الطبيعة .    


الهوامش :

1 - منصف الخميري ، جربت لكم هذا الغول التكنولوجي الزاحف " تشات جيب ي تي ، ج1 ، مجلة جلنار الألكترونية ، 03 أفريل 2023  https://www.inforum-jollanar.tn/

2 - أ . سامر جابر ، الذكاء الإصطناعي في التعليم تهديد أو فرصة chatGPT نموذجا ص 2 . نشر مركز الأبحاث والدراسات التربوية  https://esrc.org.lb/article.php?id=4507&cid=253&catidval=248  

3 - خالد الشابي ، التوجيه المدرسي : من الأنشطة التربوية التي تهدد تطبيقات الذكاء الإصطناعي وجودها ، جريدة الصحافة يوم الثلاثاء 16 / 05 / 2023 ص 8 .

4 - أ . سامر جابر ، مرجع مذكور سابقا ص 3 .

5 - نفس المرجع السابق  .

6 - منصف الخميري ، مرجع مذكور سابقا .

7 - نفس المرجع السابق  .

8 -  منصف الخميري ، جربت لكم هذا الغول التكنولوجي الزاحف " تشات جيب ي تي ، ج2 ، مجلة جلنار الألكترونية ، 10 أفريل 2023   https://www.inforum-jollanar.tn/%D8%AC% 

 

 

محمد رحومة العزّي

قابس في 21 / 05 / 2023

 منشور على موقع التنويري 

https://altanweeri.net/10204/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AC%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8E%D9%91%D8%A7%D8%AA- %D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84/

لنفكّر في التوجيه المدرسي !!!

 

لنفكّر في التوجيه المدرسي !!!


 

  

يتعهّد المجتمع منظومته التربوية بالتجديد والتطوير والتعديل مع كل مرحلة يدخلها ومع كل المستجدات التي تطرأ على أهدافه واستراتيجياته الخاصة أو على المنجزات العلمية والتكنولوجية وكذلك المقاربات البيداغوجية المعتمدة للتأقلم مع هذه المنجزات والإستفادة منها . وتلك سمة المنظومة التربوية الحية التي تأبى الركود وترفض التخلف عمّا يعتمل خارجها من تجديدات لا تفتر سواء على المستوى المحلي أو الكوني ولذلك تعمد المجتمعات إلى الإصلاحات التربوية من فترة زمنية لأخرى .

والتوجيه المدرسي بما هو منظومة تربوية فرعية لا يشذّ عن هذا الإتجاه العام ولا يمكنه أن يتغاضى عمّا يطرأ من تعديلات في المنظومة التربوية الأم بجميع مستوياتها المدرسية وما قبل المدرسية وما بعدها أيضا أي المستوى الجامعي والمستوى المهني المرتبط مباشرة بسوق الشغل . وهو ما عاشته منظومة التوجيه فعلا في ماضيها البعيد لما كانت الأولوية معطاة أساسا للإستجابة لحاجيات البلاد المتراكمة من الإطارات المتوسطة ، فكان التوجيه المدرسي أقرب إلى توزيع آلي للتلاميذ على مختلف الإختصاصات باعتماد المعدلات الدراسية لا غير ، وفي مرحلة لاحقة مع الإصلاح التربوي الثاني الذي جاء بالمدرسة الأساسية وأعاد هيكلة التعليم بدأ الربط في توجيه التلاميذ بين النتائج الدراسية والرغبة الشخصية في إطار نسب مائوية موزعة على مختلف الإختصاصات حسب ما تتطلبه المخططات التنموية العامة وما تسمح به طاقة الإستيعاب في كل إختصاص في المستويين الثانوي والجامعي . أما المرحلة الموالية التي عرفها التوجيه المدرسي فقد اتسمت خاصة بظهور مقاربة التربية على التوجيه بما كرسته من عمل على ترسيخ آليات التربية على الإختيار والتربية على المشروع وبما أفردته من مساحة للتلميذ لتكريس حريته في رسم مستقبله بناء على تمثل واع وموضوعي لمؤهلاته وقدراته من جهة ولواقع المهن وتطورات سوق الشغل من جهة ثانية وفي أيامنا هذه يعيش واقع التعلمات زخما كبيرا من التجديد والتعديل والتطوير بفعل المستجدات العلمية والإقتصادية المتسارعة لا يمكن للتوجيه المدرسي أن يبقى بمعزل عنها وأن لا يهتم بها لأن تأثيراتها تشمله أيضا وتمس في العمق مساراته وآلياته ، ومن هنالك جاءت دعوتنا إلى التفكير مجددا في التوجيه المدرسي . فماهي مبررات هذه الدعوة ؟ وكيف ترتسم آفاق التوجيه المدرسي المستقبلية ؟ وما هي استحقاقات هذه الآفاق ؟

1 – لماذا الدعوة للتفكير في التوجيه المدرسي ؟

يشهد المجال التربوي منذ عقود تغييرات عدّة تمتاز جميعا بالعمق وبمراجعة شاملة لعديد الثوابت التربوية والبيداغوجية التي بنيت عليها العملية التربوية التقليدية ، خاصة منها الأدوار المعهودة لكل من المعلم والمتعلم .

أ -  وفي مقدمة هذه التغييرات إعتماد البيداغوجيا الفارقية التي غيرت الموقف من التمايزات بين التلاميذ ودعت إلى التعامل معهم كل على حده حسب نسق الإستيعاب والتقدم الذي تخوله له مؤهلاته الذهنية وإمكانياته البدنية . كما دعمت أيضا المقاربة بالكفايات باعتبار " الكفاية هي القدرة على الإستخدام الناجح لمجموعة مندمجة من المعارف ومن المهارات والسلوكيات المستفادة من العملية التربوية لمواجهة وضعية جديدة أو غير مألوفة وللتكيف معها " (1) . وماذا لو كانت هذه الوضعية هي التوجيه المدرسي وما يبسطه أمام التلميذ من صعوبات يجب التعامل معها وتجاوزها بنجاح ، فعلى أية مهارات وأية معارف سيعوّل التلميذ حينها ؟ ألا يبني العمل التوجيهي الذي ينجزه المستشار كفاية أيضا تمكن المتعلم من الوعي بمؤهلاته الشخصية ومن تنمية وتطوير مهاراته قصد بناء مشروعه المستقبلي ؟ أي له أهداف إندماجية مدققة وحاسمة .  

في مجال الكفايات يقع التمييز عادة بين الكفايات الأفقية وكفايات المجال . الأولى تعني القدرة على الإستخدام الناجح لمجموعة المهارات المستفادة بشكل مشترك بين كل التعلمات والنشاطات والثانية تعني توظيف المكتسبات الخاصة بأحد مجالات التعلم فقط لإنجاح هذه المواجهة . ففيما يشترك التوجيه المدرسي من كفايات أفقية مع بقية المجالات ؟ وما هي كفايات المجال الخاصة به التي يجب بناؤها وتثبيتها خلال حصص التوجيه المدرسي ؟

ب – واتساقا مع المقاربة بالكفايات راجت أيضا بيداغوجيا العمل بالمشروع وما يسودها من فرص للتعلم عبر الممارسة توظف فيها جميع المهارات والمعارف المكتسبة من أجل إنجاز المشروع الشخصي ورفع كل العوائق التي تحول دونه أو تعطّل إنجازه . فالمشروع يتدرّج من مستوى لآخر ، أي من الفكرة وتشخيصها ، إلى تخطيطها وبرمجتها ، فإعداد آلياتها ومستلزماتها الضرورية ثم المرور إلى إنجازها وتجسيمها باعتماد تقييمات مرحلية ونهائية دقيقة . ومع هذا التدرج تنمو المعارف وتتدعم الكفايات إذ ليس أفضل من الممارسة الفعلية لتوطيد المكتسبات وإثرائها وتنميتها ، وفي كل خطوة تقوى شخصية التلميذ الباحث وتزداد ثقته بنفسه وبمكتسباته كما تتدقق قدراته المنهجية والعملية وتصبح مجدية أكثر . أما معلمه فسيكون المرافق الميسر الذي يوجه خطواته ويدقق أسلوبه ويبعث فيه الحماس باستمرار ليتجدد إصراره على النجاح والتميّز . فماذا لما يكون المشروع هو الرسم الدراسي المستقبلي للتلميذ ، كيف سيتدرج فيه صاحبه ووفق أية مراحل ؟ وكيف ستكون مرافقة المستشار له في هذا المسار ؟

ج – أمّا السمة الموالية في تعليمنا الحديث فتتمثل في التعليم عن بعد أي تلقّي الدروس ومتابعة المقررات دون الحاجة إلى التنقل إلى المدرسة وملازمة القسم بما عرفت عنه من طقوس تقليدية . ولإنجاز ذلك يقع توظيف جميع الوسائط الألكترونية المعروفة وتستعمل التكنولوجيات الحديثة مع ملازمة المنزل دون عناء التنقل وتجشم مخاطر الطريق . وفي ذلك تلعب الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي والبرمجيات الرقمية دور الوسيط الضامن لهذا الضرب من التعليم . وقد وفرت جائحة كورونا فرصة سانحة لمزيد تدعيم هذا التمشي والإقناع به واختبار آلياته فوفر حلولا عملية لاستحالة تنقل التلاميذ إلى المؤسسات التربوية خوفا من العدوى ومزيد تفشي الجائحة . " بل أصبح التعليم عن بعد ضرورة لا مفرّ منها ، وعمّت الدعوة إلى تأصيله لدى النشء بمجرد دخولهم المدرسة بعد أن تأكدت قدرته على استيعاب متغيرات العصر وتوفير الحلول لها مثل الجوائح والإنفجار السكاني والمعرفي والتكنولوجي " (2) . وتدعمت بذلك المناداة التي ظهرت منذ سنوات إلى اعتماد خيار التعلم بدلا من التدريس والتركيز على اكساب الطالب القدرة على التعلم وأساليبه . وهو ما تدعمت معه بيداغوجيا التعليم الذاتي أي الذي يعتمد فيه المتعلم على ذاته عبر مزاولة البحث والإجتهاد ممّا يكسبه ثقة بقدراته في عملية التعلم هذه ويعزّز لديه استقلال شخصيته والإستعداد لتحمل المسؤولية .

وهذا التعلم الذاتي يخفف من مسؤولية المؤسسة الرسمية للتعليم ، أي المدرسة ، ويوزع العبئ على بقية البيآت والمؤسسات أيضا . فكيف سيتنزّل التوجيه المدرسي في هذا الخضم من الوقائع والمقاربات ؟ بالتأكيد لن يكون تقليديا كما عهدناه .

د – أما المتغير الموالي الذي بدأ يجتاح العالم من سنوات ويعمق الأثر فيه بدفع من العولمة فيخص سوق الشغل وما يطرأ عليها من تحولات متلاحقة رسمت ملامح مغايرة كليا للمهن والأعمال . وتوجّه ذلك التغيرات التكنولوجية الكبيرة التي تسودها الرقمنة في التصنيع والتسيير وتلعب فيها الريبوتات والآلات الذكية الدور الحاسم . وهذا الأمر جعل من اختيار مهنة ما حاليا خاضعا لتقييمات عميقة ولاستقراء دقيق لمستقبليات سوق الشغل . فالمهن تولد وتموت ويتجدد بعضها ويندثر غيره بشكل متسارع يجعل من التنبؤ بهذه المستقبليات مرتبطا بوعي كامل بما يتم من متغيرات تكنولوجية وعلمية . كما أن الكم المعرفي في كل مهنة أصبح كبيرا جدا ، يعتمد الذكاء ويتجاوز الجهد العضلي ، ويستدعي التعديل والتطوير والتعهد باستمرار . فظهر العمل عن بعد والمؤسسات والمكاتب الإفتراضية ، وكبرت الحاجة إلى تخصصات الإعلامية والتكنولوجيات الرقمية الحديثة ، إضافة إلى تخصصات المالية والتجارة المتعلقة بالتسويق والدعاية والإشهار والتسيير الإداري الحديث المبني على الإستشراف والمخاطرة . أما التخصصات الإستشارية والقانونية فلها مكانتها الهامة أيضا في خضم هذه التجديدات المهنية التي تعيشها أسواق العمل . ويبقى على التوجيه المدرسي أن ينقل كل ذلك إلى التلاميذ وأوليائهم وأن يعدل خطابه لهم ويجدده باستمرار مع كل طارئ يمسّ أي من هذه الميادين كلها .

وهنا توجد مسألة هامة لابد من أخذها بعين الإعتبار ، فالمتغيرات التي تطرأ على سوق الشغل بتجدد التكنولوجيات والمعارف وظهور المؤسسات واندثارها بسرعة كبيرة أحيانا ، تلزم الجميع بالتهيؤ لتغيير العمل مع أي طارئ وهو ما يتطلب منه اتقان عديد التخصصات وليس واحدا فقط . بل إن الخبراء المطلعين على ميكانيزمات سوق العمل وعلى مستقبلياته ينصحون بأن يكون كل إنسان متمكنا من ثلاثة اختصاصات على الأقل وأن يكون قادرا على التنقل بينها والتأقلم معها بسرعة عند كل طارئ . وهنا تظهر قيمة المهارات البديلة أو الإضافية في تدعيم أو حتى الإستيعاض عن الإختصاص الأصلي الذي حصّل فيه الطالب المعارف وكسب الشهادة . فالكثيرون حاليا لا يشتغلون في المهن التي تخصصوا فيها في الجامعة بل إقتحموا مجالات أخرى معوّلين على مهارات إضافية اكتسبوها من أنشطة جانبية واجتهادات موازية لما بذلوه من تعامل مع المقررات الرسمية . فكيف سيقنع التوجيه المدرسي تلاميذه بأهمية المهارات التي يمكن أن يكتسبوها من المواد الإختيارية مثلا ومن الأنشطة الفنية والجمالية والرياضية داخل النوادي المدرسية المختلفة ؟ فيغيروا رؤيتهم لها ويصححوا مواقفهم منها ويستغلوا أوقات فراغهم بشكل مفيد فعلا لتكوينهم ولمستقبلهم . فالمهارات البديلة التي يطلبها سوق الشغل ولا تقدمها المقررات الرسمية أصبحت ضرورية اليوم ويجب أن تدخل في اعتبارات الجميع ، تلاميذ وأولياء ومسؤولي التوجيه المدرسي . بل " إن المهارات التي يتمّ التركيز عليها راهنا لن يكون لها وجود في المستقبل . العلم من جهته يبشّر بمنصات تزيل الفوارق المعرفية ويتيح تعليما معززا بالواقع الإفتراضي ، وباتت المنصّات هي المدارس الحقيقية ، لا المباني ، ومن لا يتواكب مع مثل هذه المستجدات والتطورات سيفني " (3) ، ذلك ما يجب أن يعي به الجميع وأن يجتهد التوجيه المدرسي في إيجاد الصيغ الفعالة لنقله إلى الدّارسين .

2 – التوجيه المدرسي واستحقاقات الوضع الراهن :

أ – في معنى التوجيه المدرسي :

التوجيه المدرسي هو خدمة نقدمها للتلميذ لمساعدته على حسن اختيار مستقبله الدراسي وذلك بإقداره على التمثل الصحيح لمؤهلاته ولقدراته وللوعي بشروط النجاح في كل مسار دراسي وبآفاقه الجامعية والمهنية . وأصبحت للتوجيه المدرسي حاليا أدبيات ومناهج ومتخصصين وتقاليد علمية جعلت منه فرعا من فروع علم النفس يسمى بعلم النفس التوجيه . واعتمادا على ذلك " يتحدد التوجيه بشكل عام على أنه خدمة معرفية ونفسية وتربوية تقدم للأفراد من طرف مختصين بهدف مساعدتهم على الوعي بقدراتهم وإمكانياتهم واستعداداتهم وميولهم في تفاعلاتها مع الواقع بمختلف عناصره بهدف رسم معالم المستقبل الشخصي والإستعداد لكل تطوراته الدراسية والمهنية والإجتماعية " (4) . وبهذا يبرز التوجيه المدرسي على أنه عملية هامة لجميع المسارات ، الدراسي منها والمهني والإجتماعي ، ولا يمكن الإستهانة به بأي وجه من الوجوه . ولهذا النشاط تمظهران : إداري ينجزه مجلس التوجيه بالمعهد تمهيديا ثم نهائيا في آخر السنة الدراسية ، وتربوي يكون مع التلاميذ مباشرة بأقسامهم ينجزه معهم مستشار التوجيه المدرسي والأساتذة المكلفون بالتوجيه على مستوى كل معهد . ويتم هذا التوجيه التربوي عبر مجموعة من الأنشطة الموزعة على مدى السنة الدراسية والتي تطور عديد المهارات لدى التلميذ وتقدم له المساعدة اللازمة لحسم اختياره الدراسي ورسم مشروعه الشخصي . ويخضع محتوى هذا العمل لاجتهادات مقدمه ولتكوينه وكذلك للمناخات الموضوعية المهيئة له من فضاءات وحيز زمني وأدوات تيسر تقديمه . وفي كل الحالات يبقى التوجيه المدرسي ضروريا للتلميذ ولا يمكن الإستغناء عن حصصه أو التعهد به لغير المختصين فيه نظرا لمحتواه العلمي الدقيق والمهم جدا لتوعية التلميذ بعديد المسائل التي ترشّد اختياره وتضعه على طريق النجاح الحقيقي . هذا فضلا عن الديناميكية التي يدخلها التوجيه المدرسي على الحياة المدرسية وتصحيحه للكثر من خطاها وأنشطتها فتتقدم به درجات على طريق الجودة التربوية . ومسار التوجيه المدرسي موضوعي أيضا يتكيف مع جميع المستجدات التربوية والتكنولوجية والبيداغوجية التي ذكرنا ومنفتح على كل المبادرات والتطويرات العلمية .

ب – كيف ننجز التوجيه ؟

إن نموّ المنظومة التربوية المتعدد المرجعيات والمصادر وخضوعها للإصلاح والتطوير باستمرار يخضع المنظومات الفرعية أيضا لنفس الوقائع ويلزمها بنفس الخيارات ، فالفرع يتغذّى من الأصل وينمو بنموّه ، وهو ما يصدق بالتالي على منظومة التوجيه المدرسي ذاتها المتفرعة عن المنظومة التربوية والمتأثرة بها .

التوجيه المدرسي مشكلة فعلية تعترض التلاميذ يبنى عليها كل مساره اللاحق في بقية مشواره الثانوي ثم الجامعي الذي ينعكس على المستقبل المهني والإجتماعي كله للتلميذ وإذا تعثّر مسار التوجيه أو أخفق فإن ذلك ينفذ إلى بقية المشوار كله . لذلك لابد من امتلاك التلميذ لكفاية حل هذا المشكل وتجاوز كل عقباته بيسر وبنجاح تام من شأنه أن يدعم ثقته بنفسه ويكون له حافزا على النجاح والتميّز والمرور بسلام من بقية مضيقات المسار التي كثيرا ما يحتد فيها التنافس ، وامتلاك هذه الكفاية لا يكون دون تنمية المهارات الملحقة بها لدى التلميذ مثل مهارة التخطيط للمستقبل ، مهارة التقييم الذاتي للوعي بحقيقة المؤهلات الذهنية والإمكانيات الدراسية والقدرات الموضوعية . وتضاف إلى ذلك مهارات التوثيق والتعامل مع المراجع الضرورية ، ثم تكون مهارة الإختيار والموازنة بين الفرص والمقترحات بشكل موضوعي يؤسس للنجاح . وتكون مهارة القرار بعد ذلك وحسم الموقف دون تردد وبكل ثقة بالنفس وبمسؤولية لا تترك للتعلات وللتواكل منفذا . وهو ما يعني نموّا كاملا في شخصية التلميذ يرتقي بها درجات في سلم الإكتمال .

وبذلك يكون التوجيه المدرسي تربية فعلا تستفيد من المقاربة بالكفايات المعمول بها في مباشرة المواد ومتناسقة مع بقية خيارات المنظومة التربوية ، ومركزة على تنمية المهارات لدى التلميذ وليس على تلقينه مجموعة من الإجراءات الميكانيكية التي هي إلى العمل الإداري وملئ الإستمارات أقرب . إنه " تطبيق المقاربة بالكفاءات للوصول إلى نظام الجودة الشاملة ، وهذا بتمكين المتعلم من إدراك وتنمية كفاءاته قصد بناء وتحقيق مشروعه المستقبلي "(5) . وحتى تكون هذه التربية على التوجيه مكتملة فلابد لها من اعتماد بيداغوجيا المشروع التي توظّف فيها جميع المهارات المذكورة ويستفيد فيها التلميذ من جميع آليات التعلّم عبر الممارسة . فيبني مساره المستقبلي بنفسه ، يخطط له ويؤثثه بالمدعمات والبراهين ، ويوظف فيه جميع مؤهلاته ويقتنع به ويقنع فيحوز ترضية نفسه ودعم الآخرين . يرافقه مستشار التوجيه في بناء هذا المشروع ، يقدم له المشورة وييسر تقدمه ويراجع معه كل خطوة في تقييمات مرحلية مضبوطة حتى يكتمل المشروع وينضج . ويكون التلميذ حينها قد ألمّ بكل جوانب مشروعه وأدرك بشكل فعلي عناصر ومكونات شخصيته ، وأدرك وضعية المهن في سوق الشغل وعلم بكل مستلزمات المسار حتى نهايته . التوجيه المدرسي موضوع تعليم وتعلم فعلا فيه استفادة وتوظيف للمكتسبات وفق المقاربة بالكفايات ، ويقع التأليف فيه بين البيداغوجيا الفارقية التي تأخذ الخصوصيات الذاتية بعين الإعتبار وبيداغوجيا المشروع التي تميّز التمثل العام والمسار المكتمل على الجزئيات المحدودة والرؤى الظرفية ، وبذلك يكون هذا التوجيه مسألة ديداكتيكية فعلا لها روافدها البيداغوجية والمنهجية والنفسية أيضا .

قد يضيق زمن تبليغ هذه المضامين كما هو الحال الآن بالمؤسسات التربوية أو ينقطع كليا أحيانا مثلما حدث فعلا أثناء جائحة كورونا التي فرضت غلق المؤسسات التربوية فانطفأت معها كل الأنشطة المباشرة الخاصة بالتوجيه المدرسي داخل الأقسام وخارجها واستحالت بالتالي اللقاءات بمستشاري التوجيه وبأساتذته لإنجاز المراحل المعهودة للتوجيه المدرسي كالمرحلة التحسيسية والمرحلة النهائية . هذا الواقع يلزم التوجيه المدرسي باستغلال كل الفرص التي تتاح له لتبليغ مضامينه ، ومن هذه الفرص تبرز مباشرة الوسائل التكنولوجية والتقنيات الرقمية والإتصالية الحديثة في ما عرف بالتوجيه عن بعد . ولقد جُرّبت هذه الآلية في بعض المناسبات التي فرضتها الجائحة الأخيرة والوقائع المتصلة بها في التوجيه الجامعي . ووفر الهاتف والأنترنيت والمواقع الاجتماعية والتقنيات الإتصالية الأخرى حلاّ لتجاوز الإغلاق الذي دام زمنا طويلا وتمّت مرافقة التلاميذ المترشحين للتوجيه الجامعي ، عن بعد بشكل استجاب لكل طلباتهم . وليس أمام التوجيه المدرسي إلا التفاعل إيجابيا مع هذه الآلية وتوظيفها في انجاز جميع خطواته من استكشاف ميول التلاميذ واهتماماتهم ، إلى تقييم إمكانياتهم ومؤهلاتهم فبناء وصياغة مشاريعهم ثم الإختيار النهائي وحسم رغباتهم . وعبر هذه الآلية يمكن أيضا بث المداخلات وتصوير الوثائق ونقل المعارض وإنجاز مرافقة افتراضية لجميع المسترشدين تكون متحررة من العوائق الزمنية والمكانية . ولقد بدأ المستشارون في اعتماد هذه الآلية وتجربتها عبر بعث الصفحات والمواقع الخاصة بالتوجيه على الفايسبوك وتحرير المدونات الألكترونية ، لكن دون مأسستها واعتمادها من طرف السلطة بشكل رسمي صريح في انجاز استحقاقات التوجيه المدرسي المعتادة . ونحن نجزم أن التوجيه عن بعد مكمل للتوجيه العادي ومدعم له وليس بديلا عنه أو معوّضا له إلا في الأوقات التي يستحيل فيها الفعل المباشر للتوجيه .

ج – شروط إنجاز التوجيه المستقبلي :

جليّ مما تقدم أنه على التوجيه المدرسي الإرتقاء إلى مرحلة أخرى بعد مرحلة التأسيس والتثبيت ضمن فروع المنظومة التربوية ، ويكون مدار هذه المرحلة الجديدة تطوير هذه المنظومة الفرعية والإرتقاء بها إلى مستوى يؤهلها للتفاعل الإيجابي مع المستجدات التربوية المرتبطة بالمقاربات التربوية والمنهجيات البيداغوجية والتكنولوجيات المستجلبة إلى الحقل التربوي . وهذا لن يكون سهلا بالتأكيد إذ أنه يستدعي تنظيمات بيداغوجية تعيد النظر في الزمن المدرسي وتخص التوجيه بحيّز ثابت منه يمكن المستشار من الإلتقاء بجميع الأقسام في شكل فرق محدودة العدد في أوقات دورية قارّة تسمح له ببرمجة مكتملة لمختلف الأنشطة معهم . وعمل كهذا يتطلب وثائق خاصة على محامل متنوعة توفر جميع الأدلة التي يحتاجها التلميذ منذ بداية السنة الدراسية باستثناء بطاقة الرغبات التي توزع لاحقا عندما يحين موعد الإختيار وتثبيت القرار النهائي . كما يجب أن يمسك كل تلميذ ملفا خاصا بالتوجيه المدرسي يضمنه الإستمارات والإستبيانات الدراسية والمهنية التي توضح مؤهلاته ومهاراته ومخططات مشروعه الشخصي ، ويكون كل ذلك متابعا دوريا ووقعت مراجعته من قبل المستشار . وعمل كهذا دقيق ومعمق دون شك ينجزه من اختص في علم النفس التوجيه دون غيره ، ويكون قادرا أيضا على الإستفادة من مكتسبات التنمية البشرية وتوظيف ما جاءت به من تمارين وآليات لتطوير المهارات والذكاءات . وهو ما يستدعي الحاجة إلى أعداد كبيرة من المستشارين لا تقل عن مستشار بكل معهد تهيؤ له جميع الظروف وتوفر جميع حاجيات الإشتغال العلمي السليم . وهذا يستوجب تكوين العدد الكافي منهم وإنهاء العمل بتجربة الأستاذ المكلف بالتوجيه لعدم تخصصه ولمحدودية تدخلاته على جميع الأصعدة . فسلك المستشارين " هو الجهة الوحيدة التي يلجأ إليها الطلبة الجدد وأولياؤهم لطرح أسئلتهم الدقيقة واستفساراتهم المتعددة التي تفترض سعة إطلاع ودراية عميقة بالمضامين المدرسة هنا وهناك لا مجرد أفكار عامة حول عائلات الشعب في التعليم العالي "(6) . وهذا يستدعي أيضا تحيينا للنصوص القانونية الخاصة بالتوجيه المدرسي وتعديل ما استوجب منها . أما على المستوى المادي فلابد من توفير كل التجهيزات التكنولوجية من حواسيب ولوحات ألكترونية ومحامل مختلفة ومساعدة التلاميذ على اقتنائها والتزود بها باعتبارها آلية تجسيم التوجيه عن بعد . كما يجب تجهيز كل معهد بفضاء خاص بالتوجيه يقابل فيه المستشار تلاميذه فرادى ومجموعات ، وتحفظ فيه كل الملفات والوثائق والأدلة والمراجع الخاصة بالتوجيه المدرسي والتي تيسر إنجاز مختلف أعماله وأنشطته .

هذا فيما يخص المستوى الخارجي للتوجيه وهو جانب إعدادي تقع فيه تهيئة التلاميذ لحسم اختياراتهم بشكل موضوعي مقنع عبر عمل تربوي بيداغوجي مكتمل يتدرّج من بداية السنة الدراسية إلى بداية الثلاثي الأخير منها . لكن هنالك المستوى الداخلي للتوجيه ويشمل العمل الإداري التنفيذي في مجلسي التوجيه التمهيدي والنهائي الذين تجب مواكبتهما على جميع الأعضاء إلزاميا حسب ما تنص عليه الصيغ القانونية ومن تضطرّه ظروفه القاهرة للتغيب " فإنه يتعين عليه تبرير غيابه باتباع التراتيب الجاري بها العمل ، وموافاة مدير المعهد قبل انعقاد مجلس التوجيه بملاحظاته واقتراحاته المتعلقة بتلاميذه الذين سينظر المجلس في توجيههم " وفق ما أكد عليه أحد المناشير القديمة للتوجيه المدرسي (7) ، لا تمييز في ذلك بين أساتذة المواد الأساسية في التوجيه والمواد الأخرى . فأساتذة التربية الدينية أو المدنية لهم مجال تدخلهم أيضا في متابعة قدرة التلميذ على الحفظ والإستذكار وعلى درجة ذكائه وحدة ذاكرته ، وأساتذة التربية البدنية لهم تقييمهم لشخصية التلميذ وشدّة عزمه ومدى إصراره على النجاح وحبه للتفوق والمضي قدما في تحقيق أهدافه ، وأساتذة التربية الفنية يعلمون الكثير عن مواهب التلاميذ الإضافية . فجميع هذه المؤشرات هامة جدّا لتقدير قدرة التلميذ على النجاح وعلى نسق تقدمه في مساره الدراسي . وتحجج أساتذة هذه المواد بغير ذلك لإعفاء أنفسهم من حضور مجالس التوجيه دليل على عدم إدراكهم لمجمل عناصر وظيفتهم التربوية . وهو ما يجب تلافيه عبر الرسكلة والتكوين في التوجيه المدرسي خلال السنة الدراسية من طرف مستشار التوجيه .

كما يكون مجلس التوجيه تحت رقابة المستشار في متابعة أشغاله وتوجيهها والمصادقة عليها حتى وإن كانت إدارته وإعداده من مشمولات مدير المعهد . يحضر المستشار المجلس ويحق له إرجاؤه وتأجيل أشغاله إن لاحظ خللا في إعداده أو تقاعسا في مواكبته من طرف أعضائه ، كما يشرح إختيارات التلاميذ ويبين للمجلس مسار إعدادها وصياغتها حتى لا يتم القفز عليها من طرف بعض الأساتذة الذين يقومون أحيانا بعملية إنتقاء أو إنتداب لفائدة إختصاصاتهم العلمية غيرة عليها وسعيا إلى تجميع المتميزين بها دون مراعاة لاختيارات التلاميذ ذاتها . ولخلق ديناميكية في التوجيه أساسها الإمتياز والجدارة لابد من ضبط مرجعيات تنافسية معلومة من قبل التلاميذ منذ الإنطلاق ، يكون ذلك إما عبر إعادة العمل بالنسب المائوية التي تفتح الإختصاص للأجدر دائما عبر شروط علنية ومعلومة من الجميع ، ولا نمنع منطقيا في التوجيه المدرسي ما هو معمول به في التوجيه الجامعي الذي يلزم التلميذ بمجموع أدنى في كل اختصاص ، أو عبر رسم شروط ومعدلات فاصلة بين التعليم العام بالتميز في جميع المواد أو المواد المرجع للإختصاص على الأقل والتعليم التقني لمن هم دون ذلك بمراكز التكوين المهني . ونظرا لكثرة عدد المستشارين المنتظرة ، باعتبار مستشار لكل معهد ، فلابد من تنسيق أعمالهم على مستوى المندوبية من قبل مكتب للتوجيه المدرسي يديره مستشار عام خبير ، يتابع آداءهم ويوجه بحوثهم حسب مقتضيات المنظومة التربوية ، كما يبرمج دورات رسكلتهم ولقاءاتهم ويوزع عليهم المهام الخاصة بتكوين الإطار التربوي مثلا وحضور الملتقيات الوطنية بالتداول وحسب إهتمامات كل مستشار وتخصصه . وتستدعي هذه الهيكلة في التنظيم إدارة مركزية للتوجيه المدرسي على مستوى الوزارة تكون ملحقة بإدارة الحياة المدرسية يديرها مستشار عام خبير له تميزه في المجال ، يشرف أيضا على مركز وطني للتوجيه المدرسي يشتغل على توفير كل مستلزمات العمل اللوجستية والتوثيقية للمستشارين وينسق ملتقياتهم وتربصاتهم عند التكوين والرسكلة التي يخضعون لها من حين لآخر .

على سبيل الخاتمة

بهذه الإجراءات المقترحة نرى أن مستقبل منظومة التوجيه المدرسي سيكون أفضل مما هي عليه الآن وستدخلها في مسار إصلاحي يطوّر كثيرا آلياتها وإجراءاتها المعهودة التي بقيت تراوح وضعها منذ ربع قرن من الزمن جرى فيه ما جرى من تجديدات بيداغوجية وتكنولوجية عميقة التأثير في المسألة التربوية برمتها مثل مسألة المقاربة بالكفايات ، التنمية البشرية واشتغالها على تطوير المهارات ، البيداغوجيا الفارقية ، بيداغوجيا المشروع ، التدريس عن بعد ، التكنولوجيات الرقمية والتعليم الألكتروني ، تطورات سوق الشغل وعلاقاتها بالتخصصات الدراسية ... الخ . ولا يمكن للتوجيه المدرسي أن يتغاضى عن هذه المسائل وأن لا يحسم فيها القول أو أن لا يستفيد منها في تطوير آدائه وتجويد خدماته . ونؤكد أخيرا أن عملنا هذا لا يرمي إلى تقديم أجوبة قاطعة أو أن يقرر في مسائل نعلم جيدا أنها لا تحسم إلاّ جماعيا وبمشاركة الباحثين والمختصين وأهل المهنة ، بل غايته أن يطرح أسئلة ويثير إشكاليات نرى أنه لا مناص من الاهتمام بها والإشتغال عليها حتى نضمن لمنظومة التوجيه المدرسي المواكبة والتجديد .    


المراجع

1 – يونس جبوري ، القدرة والكفاية والمهارة ، أية علاقة ؟ موقع الحوار المتمدن العدد 4843 ، في 28 /01 / 2022

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=473074

2 – د شمسان بن عبد الله المناعي ، تعليم المستقبل هو التعليم الذاتي ، صحيفة الوطن في 19 / 10 / 2021

https://alwatannews.net/article/969510/

3 – د على أسعد وطفة ، من مداخلته بندوة سياسات التعليم ونظمه في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد : تساؤلات وآفاق ، مجلة حكامة عدد 2 مارس 2021 ، ص 195 .

4 - محمد رحومة العزّي ، التوجيه المدرسي ، مسارات وآليات ، ص 12 – الدار للنشر والتوزيع ، مصر 2021 .

5 – د . شوشان زهرة وأ. بغدادي خيرة ، المقاربة بالكفاءات في التوجيه والإرشاد المدرسي والمهني ، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/13759

 6 – من التقرير الوطني حول التوجيه الجامعي لسنة 2021 ، ص 13 ، إعداد الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني .

7 – منشور عدد 20 / 93 صادر عن الإدارة العامة للتعليم الثانوي بتاريخ 18 فيفري 1993 ص 2 .   

            

 

 

محمد رحومة العزي

مستشار عام التوجيه المدرسي والجامعي

قابس في 08 مارس 2022 / الجمهورية التونسية

التوجيه المدرسي واستحقاقات الجودة التربوية


 

التوجيه المدرسي

واستحقاقات الجودة التربوية

 

 

       يعتبر تطوير المنظومة التربوية والإرتقاء بها في مدارج الجودة والإتقان من المشاغل الملحّة لأية دولة تحرص على المضي قدما في طريق التقدّم الاجتماعي ، وعلى مجاراة نسق التطور الذي تتنافس عليه الأمم وتهيّؤ له كل المحرّكات والضمانات التي توجد المنظومة التربوية في قاعدتها . فأي أمل في تحقيق النجاحات الاقتصادية والإجتماعية وفي الإصطفاف ضمن الأمم المتقدمة لن يكون ممكنا دون منظومة تربوية راقية ، مبدعة ، تقدم منتوجا جيدا وتدعم أسسها باستمرار وتعدل عناصرها ومكوّناتها كلما اقتضى الأمر واستدعت المستجدات العلمية والتربوية ذلك . وينبني تطوير هذه المنظومة على عديد العناصر يتعلق بعضها بالبرامج والمقررات وبعضها بالمناهج والمقاربات البيداغوجية وبعضها بالحياة المدرسية والمناخات العامة التي يجري فيها آداء المنظومة برمتها . وفي هذا التمثل يتنزل التوجيه المدرسي الذي يحيط بجانب مهمّ جدّا من آداء التلاميذ فيؤثر فيه بعمق ويرشده ويخرجه من دائرة التذبذب والمزاجية ، ومن خلال ذلك يمرّ تأثيره إلى المنظومة التربوية بكاملها ليضمن لها خطوة هامة على درب الجودة التربوية الشاملة .

فما معنى الجودة التربوية ؟ وما المقصود بالتوجيه المدرسي ، لأن المصطلح له معان مختلفة بين المشرق العربي ومغربه ؟ وكيف يكون هذا التوجيه أحد مداخل الجودة التربوية الذي لا غنى عنه ، سواء لعمق فعله في المنظومة التربوية وتعدّد إضافاته لها أو بفعل تأثيراته على اختيارات التلاميذ وعلى مختلف تمثلاتهم الذاتية والموضوعية ؟

1 – في معنى الجودة التربوية :

ظهر مفهوم الجودة الشاملة Total Quality Management ( TQM ) بالولايات المتحدة الأمريكية في ثمانينات القرن العشرين في الحقل الاقتصادي بالأساس وذلك بفعل المنافسة العالمية واكتساح الصناعات اليابانية العالم وخاصة أسواق العالم الثالث . وهو ما مثل مشغلة فعلية للولايات المتحدة ولحلفائها المسيطرين عادة على الأسواق العالمية خوفا من خسارتهم لها ومن تراجع نفوذهم بها . وكانت الجودة تعني في مجملها الإيفاء بمتطلبات الحريف المستفيد بكل دقة والإلتزام بشروطه وبالمواصفات التي يطلبها . وهو ما أدى إلى إدخال تغييرات جذرية على منظومة الإنتاج برمتها في كل مراحلها وضبط مؤشرات وأدوار دقيقة يلتزم بها كل طرف يشارك في هذه المنظومة . وبذلك تعرّف الجودة الشاملة على أنها " نظام يتضمّن مجموعة من الفلسفات الفكرية المتكاملة والأدوات الإحصائية والعمليات الإدارية المستخدمة لتحقيق الأهداف ، ورفع مستوى العميل والموظف على حدّ سواء ، وذلك من خلال التحسين المستمرّ للمؤسسة وبمشاركة فعالة من الجميع من أجل منفعة الشركة والتطوير الذاتي لموظفيها ، وبالتالي تحسين نوعية الحياة في المجتمع "(1) . وانطلاقا من هذه الدائرة الاقتصادية اكتسح مفهوم الجودة الشاملة جميع القطاعات ومرّ إلى المجال التربوي ليستهدف مجمل السمات والخصائص التي تتعلق بالأنشطة التعليمية وتفي باحتياجات التلاميذ المستفيدين ، أي أن الجودة التربوية صارت تعني درجة من الإتقان والتميّز ومستوى تربويا راقيا تبلغه المنظومة التربوية من خلال إستجابتها إلى مجموعة من الشروط والمؤشرات المتفق عليها عالميا تخص جميع المحاور من القيادة والتسيير الإداري إلى المقررات والمقاربات والمناهج وكذلك مناخات الحياة المدرسية . ويعرف البعض هذه الجودة التربوية بأنها تعني " أداء العمل بأسلوب صحيح متقن وفق مجموعة من المعايير التربوية الضرورية لرفع مستوى جودة المنتج التعليمي بأقل جهد وكلفة محققا الأهداف التربوية وأهداف المجتمع وسد حاجة سوق العمل من الكوادر المؤهلة علميا "(2) . ويعرفها أحمد درياس بأنها " أسلوب تطوير شامل ومستمر في الآداء يشمل كافة مجالات العمل التعليمي ، فهي عملية إدارية تحقق أهداف كل من سوق العمل والطلاب ، أي أنها تشمل جميع وظائف ونشاطات المؤسسة التعليمية ليس فقط في إنتاج الخدمة ولكن في توصيلها ، الأمر الذي ينطوي حتما على تحقيق رضا الطلاب وزيادة ثقتهم وتحسين مركز المؤسسة التعليمية محليا وعالميا "(3) . وجلي غلبة الرؤية الاقتصادية للمسألة حتى على مستوى المفاهيم المستعملة . بل أنه تم تطوير نظام الإيزو 9000 المعمول به في مؤسسات التصنيف الاقتصادي International Standardization Organization ليتوافق مع الميدان التربوي فظهر ما يسمّى الإيزو 9002 ويتضمن 19 بندا تمثل مجموعة متكاملة من المتطلبات الواجب توافرها في نظام الجودة المطبقة في المؤسسات التعليمية للوصول إلى خدمة تعليمية عالية(4) . كما اشتغل الباحثون على مؤشرات الجودة التربوية وضبطوا عناصرها دون أن تكون بينهم اختلافات كبيرة . ونذكر في هذا الصدد المقياس الذي طوره " إدوارد ديمنج " رائد فكرة الجودة الشاملة ، ويتكون من " أربعة عشر نقطة توضّح ما يلزم لإيجاد ثقافة الجودة وتسمى هذه النقاط " جوهر الجودة في التعليم " وتشمل ما يلي(5) :

1 ـ إيجاد التناسق بين الأهداف . 2 ـ تبني فلسفة الجودة الشاملة . 3 ـ تقليل الحاجة للتفتيش .

4 ـ إنجاز الأعمال المدرسية بطرق جديدة . 5 ـ تحسين الجودة ، الإنتاجية ، خفض التكاليف

6 ـ التعليم مدى الحياة . 7 ـ القيادة في التعليم . 8 ـ التخلص من الخوف . 9 ـ إزالة معوقات النجاح . 10 ـ خلق ثقافة الجودة . 11 ـ تحسين العمليات . 12 ـ مساعدة الطلاب على النجاح

13 ـ الالتزام . 14 ـ المسؤولية .

 وبتأملنا في هذه النقاط يمكن أن نسجّل عديد الإستنتاجات أولها إلتزام هذا المقياس " بتحقيق الهدف الأساسي للجودة ألا وهو رضا المستفيد والمتمثل بالطلبة والمعلمين وأولياء الأمور والمجتمع المحلي وسوق العمل والتحسين المستمر في عناصر العملية التعليمية " . أما الإستنتاج الثاني فيخص الوشائج الوثيقة التي يمكن أن نلحظها بين هذا المقياس ومنظومة التوجيه المدرسي في عديد النقاط خاصة منها الأولى والرابعة والثامنة والتاسعة والحادية عشر والثانية عشر ، فهي تقترب كثيرا من الأهداف التي يسعى إليها التوجيه المدرسي في مختلف أنشطته ومراحله ، بما يجعل منه آلية فعلية لاقتحام مجال الجودة التربوية ومدخلا من مداخلها الحاسمة . لكن لنوضح مسألة التوجيه أولا .

2 – التوجيه المدرسي ، شمولية المعنى وكثافة الأنشطة :  

  التوجيه المدرسي هو مرافقة تربوية للتلاميذ يقوم بها مختصون ، لإقدارهم على رسم مسارات مستقبلهم الدراسي والجامعي والمهني وحسن اختيار اختصاصاتهم وبناء مشاريعهم وفق تدقيقات علمية موضوعية تبنى على أساس التوافق التام بين المؤهلات الخاصة والقدرات الشخصية والرغبات المرسومة . ويهدف إلى ضمان النجاح والتميز الدراسي في مختلف المسالك والإختصاصات والتوفق إلى بناء مشاريع ناجحة في جميع مراحلها الدراسية والمهنية والإجتماعية . لذلك يمثل التوجيه المدرسي ميدانا حساسا وشاسعا تتقاطع عنده عديد الإختصاصات والمعارف الخاصة بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية مع عديد المعارف الميدانية والتطبيقية الخاصة بعلوم الشغل والمهن والمستقبليات والإحصاء والتكنولوجيات الرقمية الحديثة ، وهو ما جعل من التوجيه اختصاصا معقدا ومستقلا بنفسه تحت يافطة علم النفس التوجيه ، له مختصوه وأدبياته ومؤسساته الأكاديمية وآليات اشتغاله . واتساقا مع ذلك يلاحظ البعض أنه " يقصد بالتوجيه مجموع الخدمات التربوية والنفسية والمهنية التي تقدم للفرد ليتمكن من التخطيط لمستقبل حياته وفقا لإمكاناته وقدراته العقلية والجسمية وميوله بأسلوب يشبع حاجاته ويحقق تصوّره لذاته " (6) .

ولئن ظهر التوجيه المدرسي ، كمبحث مستقل بذاته ، منذ مطلع القرن العشرين ونما بسرعة بين أمريكا وأوروبا بالتوازي مع النمو الاقتصادي والتطوّر العلمي والتكنولوجي الذين شهدهما النصف الأوّل من ذلك القرن ، فإنه لم يظهر عندنا كخدمة مهيكلة حائزة على جميع عناصر المقاربات التربوية من أدبيات وقوانين وهياكل ومشرفين مختصين واشتغال جامعي أكاديمي إلا مع الإصلاح التربوي الثاني الذي أنجز في بداية تسعينات القرن الماضي . وظهر تبعا لذلك سلك مختصي التوجيه المدرسي والجامعي بالمندوبيات الجهوية وبالمعاهد الثانوية يؤمنون هذه المرافقة التربوية التي يحتاجها جميع التلاميذ ، فيلتقون بهم بفصولهم في مناسبات عديدة في مستويات المرحلة الثانوية أساسا يعرفونهم بالإختصاصات والشعب الثانوية والجامعية ويرشدونهم إلى آليات وسبل الإختيار الصائب وإلى ضمانات التوفق في التعامل مع المستقبل الدراسي والمهني . كما يساعدونهم على تمثل ذواتهم وعلى الإنتباه إلى مؤهلاتهم الحقيقية وكيفية توظيفها على أحسن وجه لرسم مسارات مضمونة النجاح . ويتوسع إشتغال هؤلاء المختصين إلى البحث ودراسة الظواهر المدرسية المستفحلة والحادثة ومتابعة الحياة المدرسية ، وإلى تكوين الأسلاك التربوية وتأطيرها ، أو الإحاطة بمستوى الإعدادي أيضا سواء لتيسير إندماج التلاميذ الجدد أو لتأهيل المقبلين منهم على المناظرات الوطنية للنجاح فيها بتميّز .

وواضح أن هذه الأنشطة ثريّة جدا وحاسمة في تطوير الخدمات التربوية المقدمة بمختلف المؤسسات وخارجها أيضا في عديد الندوات والتظاهرات التربوية والشراكات التي تعقدها الوزارة ومؤسساتها مع أطراف أخرى صحية ومهنية واجتماعية تتقاطع أنشطتها جميعا مع التوجيه المدرسي في أكثر من نقطة وأكثر من مناسبة .

ونحن نعتمد هذا الزخم في النشاط ومختلف هذه التفاعلات لنؤكد أهمية الدور الذي يلعبه التوجيه المدرسي في ارتقاء المنظومة التربوية درجات في مسار الجودة الشاملة ، فبصماته جلية في إفادتها وفي مساعدة المستفيدين منها على وجه الخصوص ، أي التلاميذ ، بما يجعل منه أحد العناصر الهامة في تلبية إستحقاقات الجودة التربوية .

3 – التوجيه المدرسي ، مدخل أساسي لضمان الجودة التربوية :  

يستدعي تأكيد مساهمة التوجيه المدرسي في ارتقاء العملية التربوية بالمعاهد وفي تجويد آدائها وإتقانه ، كشف تأثيره الإيجابي على سير المنظومة ككل وتوضيح استفادتها الفعلية منه ، وعلى توجيه اختيارات التلاميذ الوجهة الصحيحة وتعديل آدائهم الدراسي وإنضاج سلوكياتهم بصفة عامة . 

أ – التوجيه المدرسي وتأثيراته على المنظومة التربوية :

إن المتابع لمجريات الأمور في المنظومة التربوية التونسية وسيروراتها التاريخية يلاحظ الإضافة المهمة التي كسبتها بفضل إقرار تطوير التوجيه المدرسي في شكله الجديد وإيجاد المراجع القانونية الضرورية التي تضبط إجراءاته وتنظّم سيرورته على مستوى المواعيد القارة والمراحل المعنية والمتدخلين فيه . بدأ ذلك مع المنشور 106 خاصة الصادر عن إدارة التعليم الثانوي بتاريخ 6 نوفمبر 1992 ، الذي أكد تقسيم المرحلة الثانوية إلى مسالك تعليم عام وشعب إختصاص تفضي جميعا إلى الباكالوريا " حفاظا على توازن النظام التربوي وشمولية التكوين وتلافي السلبيات التي أفرزها نظام التوجيه سابقا باعتباره لم يعد يوافق السن التي تظهر فيها عادة مؤهلات التلميذ واستعداداته الحقيقية "(7) . إذ كان التوجيه يقرر في نهاية المرحلة الإعدادية أي موازيا لسن المراهقة بكل تفاعلاتها . وفي هذا التجديد تبنّ واضح لمبررات علمية تضفي على هذا الإختيار كثيرا من المصداقية والإقناع . وحدد هذا المنشور الإختصاصات وأنواع الباكالوريا التي تفضي إليها جميعا ، بخلاف ما كان سابقا عندما كانت الإختصاصات التقنية تنتهي بالحصول على ديبلوم تأهيل تقني لا يمكّن من المواصلة بالتعليم العالي . وقع إقرار بعث باكالوريا تقنية ، وتفريع شعبة العلوم السابقة إلى شعبة رياضيات وشعبة علوم تجريبية وألغيت شعبة رياضيات تقنية . وعاد العمل باختصاص الإقتصاد والتصرف وتمّ تثبيت إختصاص الآداب .

والمتأمل في هذه الهيكلة الجديدة يلاحظ استجابتها أكثر لمؤهلات التلاميذ ورغباتهم وإعطائهم المزيد من الأمل وتغذية طموحهم إلى تحصيل أرقى الشهادات العلمية الجامعية بدل التعسف على أغلبهم وإنهاء طموحاتهم عند الديبلومات التقنية المتوسطة . وفي هذا تطوير هامّ للمنظومة التربوية ككل التي أصبحت محترمة أكثر لتلاميذها ومغذية لروح البذل والعطاء عندهم ، وارتقت إلى معالجة مشاغلهم واختياراتهم معالجة علمية من طرف متدخلين لهم دراية معمقة بنفسية التلميذ وبتوجهات ميوله وتفكيره . وهنا تأتي أيضا الإضافة المعتبرة الثانية التي جاء بها هذا المنشور وهي بعث سلك المستشارين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي ، يقع إنتقاء أعضائه من أساتذة التعليم الثانوي عبر الإختبارات الكتابية والشفوية الحاسمة ويقع تكوينهم تكوينا معمقا نظريا وتطبيقيا على مدى سنتين للحصول على الماجستير المهني في الإعلام والإرشاد والتوجيه المدرسي والجامعي . وبذلك توضع عملية التوجيه المدرسي بين يدي مختصين لهم دراية كاملة بمساراتها وآلياتها وقادرين على كشف خصوصيات المستفيدين منها ، بعد أن كانت موكولة سابقا لأطراف يعوزهم كل ذلك ويكتفون بالإعلام بمواعيدها وبتوزيع بطاقات الإختيارات وجمعها .

ويضيف المنشور أنه في انتظار جاهزية هذا السلك التي تتطلب سنتين يقع تكليف أساتذة متفرغين من ذوي الخبرة والإشعاع ليكونوا منسقين في الإعلام والتوجيه على مستوى المندوبيات الجهوية بعد تمكينهم ممّا يستوجب من التكوين والوثائق ، مع تكليف أستاذ أو أكثر بالتوجيه على مستوى كل معهد في مرحلة لاحقة ،  بما يعني جدية المسعى وحرصا بيّنا على استعجال الإرتقاء بالتوجيه المدرسي ومن ورائه الإرتقاء الفعلي في درجات الجودة التربوية . ويكلف هذا الأستاذ المنسق " بإعلام التلاميذ وأوليائهم وإرشادهم حول النظام التربوي وشعب التعليم الثانوي والآفاق الجامعية والمهنية المفتوحة أمام كل شعبة " ... ما يستدعي منه " الإطلاع على الدراسات والحصول على الوثائق والمعطيات الكفيلة بإعانة التلميذ في اختياراته للشعب المدرسية والجامعية "(8) .

يكون التوجّه بالإعلام والتكوين حسب هذا المنشور إلى التلاميذ والأساتذة والأولياء على حدّ سواء ، في مناسبتين على الأقل خلال السنة الدراسية ، أي أن الإستفادة من أنشطة التوجيه المدرسي شاملة وتنسحب على جميع المتدخلين في هذه العملية التربوية حتى يكون التأطير كاملا وعميقا ، إعلام وإرشاد لهؤلاء وتكوين ورسكلة في علم النفس التوجيه وعلم النفس المراهق وفي المرافقة والإصغاء وتنشيط المجموعات وآليات التعامل الإيجابي مع التلميذ لأولائك . فيتحسن بذلك آداء الجميع وترتقي المنظومة التربوية وتتجوّد خدماتها وتتحسن بالتالي مخرجاتها جميعا ، ويصبح التوجيه المدرسي بالفعل ركنا أساسيا من خطة الإصلاح التربوي . وهو نفس التوجّه الذي كرّسته المناشير اللاحقة الخاصة بتراتيب التوجيه المدرسي الذي صارت تعقد له المجالس التمهيدية والنهائية والتعديلية أيضا في عملية إعادة التوجيه ، بما يجعل مرافقة التلميذ مكتملة ويجعل الإرتقاء مسترسلا في درجات الجودة والإتقان ، خاصة وأن أنشطة مستشاري التوجيه امتدت لاحقا إلى التعليم العالي مع التلاميذ الناجحين في الباكالوريا . ولم تقتصر الإضافات المعتبرة التي جاء بها التوجيه المدرسي على المنظومة التربوية فقط بل شملت أيضا التلميذ المستفيد من هذه المنظومة ومن تجويد خدماتها .  

ب – التوجيه المدرسي ، آلية الإحتفاء بالتلميذ ودعم مكانته في المشهد المدرسي :  

يشدد القانون عدد 65 لسنة 1991 المؤرّخ في 29 جويلية 1991 والمتعلق بالنظام التربوي على أن التلميذ هو قطب العملية التربوية ومدارها وعنده تلتقي جميع الإجتهادات والإصلاحات ، وهو ما أعاده وأكّد عليه القانون التوجيهي للتربية والتعليم عدد 80 لسنة 2002 . وهو نفس التوجّه الذي انبنى عليه نظام التوجيه المدرسي والجامعي الذي بدأ العمل به مع الإصلاح التربوي الثاني لسنة 1991 هادفا إلى تأطير التلميذ بشكل متكامل والإرتقاء بمعارفه وتكوينه .

التوجيه المدرسي يعرّف التلميذ ، وبقية المستفيدين ، بالمسالك والشعب الدراسية المتوفرة في المستويين الثانوي والعالي ، ويوضح له شروط الإلتحاق بها والنجاح فيها . ويكون ذلك في مختلف مواعيد الإلتقاء به مباشرة أو عن بعد ، أي ليس في المواعيد المدرسية القارة فقط لأن فرص مرافقة التلميذ مفتوحة ميسرة سواء بالأقسام أو بمكاتب الإصغاء والمرافقة بالمعاهد أو بخلايا التوجيه بالمندوبيات أو عبر الصفحات والمواقع الألكترونية المختلفة . كما يُطلع التوجيه المدرسي التلميذ على الإختصاصات المهنية وعلى سوق الشغل وشروط الإستفادة منها والإندماج بها ، ويوفر له الأدلة والوثائق التي يحتاجها ويجعلها في متناوله بجميع الصيغ الممكنة . وفي هذا دعم نفسي كبير للتلميذ وإشعار له بمكانته القيمة في المنظومة التربوية وباحترام شخصه واختياراته وبتوفر الإستعداد المطلق والفعلي لسماعه والحوار معه والأخذ برأيه كلما أقنع به وكان مصيبا . وهذا من شأنه إحداث تغيير فكري وسلوكي جيّد لدى التلميذ بما يتوافق مع العمل التربوي السليم ويدعمه . ويكون القطع بذلك مع أساليب تربوية بالية تغيّب التلميذ وتتعسف على رغبته وتنسحق معها شخصيته . إن طمأنة التلميذ التي يوفرها التوجيه المدرسي وضمان مرافقة مفيدة له وداعمة لشخصيته تشعره بالتفهم الفعلي لاختياراته ودوافعها ودوافع تراجعه عنها أيضا أو تعديلها متى ارتأى ضرورة ذلك ، تساهم كلها في توفير مناخ تربوي محفّز على العمل والإنضباط وعلى اعتزاز التلميذ بمؤسسته التربوية فيعاملها ويعامل من فيها بكل احترام وتقدير ورقي حضاري ويتشوّق باستمرار إلى الإلتحاق بهم والعمل معهم . أمّا إذا توترت المناخات التربوية وانعدمت الدافعية لدى التلميذ فلن يرجى منه الشيء الإيجابي والمطمئن .

التوجيه المدرسي يتفهّم نفسية التلميذ وتفاعلاتها ويقدّر إختياراته ومبرراته ويوفر له المساعدة الضرورية على استشراف المستقبل وفق بناء منطقي مقنع يشعر التلميذ أنّه الفاعل فيه عمليا وأنه الماسك بخيوطه بوعي صحيح والموجّه لمساراته بمسؤولية كاملة أو بحريّة مسؤولة ومقتنعة بكل خطوة يقرّرها . وهذا ما يحتاجه التلميذ فعلا ليركز في دراسته وينضبط في سلوكه ولتتفتح مواهبه وتنمو مؤهلاته فيبدع فعلا في النتائج والمردودية .

وبالإضافة إلى ذلك فإن التوجيه المدرسي ينمّي لدى التلميذ مجموعة من الكفايات الأفقية التي يحتاجها طوال حياته ويعتمدها في أي سلوك أو تصرّف يأتيه مثل كفاية الإختيار وبناء المشروع ، فالتلميذ مقبل على حسم عديد المواقف ليس في توجيهه المدرسي وتثبيت مسلك دراسته فقط ، بل في حياته الاجتماعية والأسرية والمهنية أيضا . والتوجيه المدرسي يعلمه كيف يكون الإختيار مبنيّا دائما على معطيات موضوعية مقنعة في إطار تخطيط شامل يستحضر كل المبررات والغايات والعناصر الداعمة لنجاح هذا البناء أو المشروع بمختلف مراحله وتفرّعاته وبعد تقييمات علمية للميول والإهتمامات والمؤهلات . وهنا يكون التمكن من كفاية الإستشراف أيضا والتمثّل الصحيح للمستقبل بناء على استشارات وحوارات مفيدة وعلى تقييم موضوعي للعناصر الضامنة لحسن التخطيط للمشروع ولنجاحه ، وهو ما يعرف عند التربويين بالتعلم عبر الممارسة . وهذا يطوّر لدى التلميذ كفايات إضافية تخص كيفية البحث والتوثيق والإستفادة من عناصر المحيط وحسن توظيفها أو دمجها في المخطط الشخصي العام . فيكون التمكن أيضا من سبل التعامل الموفق مع الوثائق والمراجع المكتوبة والرقمية وتوظيف التكنولوجيات الحديثة والمضامين الرقمية الخاصة بالتوجيه المدرسي والجامعي الموجودة على الصفحات والمواقع التي تديرها المؤسسات المختصة أو المستشارون ، وفائدة ذلك دائمة على مرّ الزمان وليست ظرفية منتهية باختيار التخصص الدراسي . وبهذا يثري التوجيه المدرسي ثقافة التلميذ ويشحذ وعيه بذاته ويعلمه التقييم الموضوعي لفرص البناء واستحضار عناصر النجاح وتطوير الآليات الخاصة لتحقيق الأهداف وتجسيد الطموحات والأحلام بكل موضوعية . وجميع هذه العناصر تنعكس إيجابا على المناخات التربوية لتصبح جاذبة داعمة وفي ذلك فوائد كبرى للمنظومة التربوية بأكملها ولتجويد آدائها وارتقائها درجات في مسارات التميّز التربوي .

ج - التوجيه المدرسي والتحفيز على الإرتقاء بالنتائج المدرسية :

 يساهم التوجيه المدرسي بفعالية كبرى في تحسين النتائج المدرسية للتلاميذ وتستفيد بذلك المنظومة بأكملها فتوظفه في تحسين ترتيبها في مختلف التقييمات العالمية المبنية على نوعية النتائج المدرسية في قسط كبير منها . وحتى وإن أعوزتنا ظرفيا المدعمات الإحصائية التي تثبت صحة قولنا فإن لنا من المؤشرات ما يجيز لنا تأكيد هذا الدور الذي يلعبه التوجيه المدرسي باقتدار كبير . فمعلوم أن شرعية الإختيار في التوجيه المدرسي تبنى في جانب هام منها على التميّز في المواد المرجع أوّلا ثم على القدرات والإمكانيات ثانيا وعلى موافقة الولي ثالثا . والمواد المعنية هي اللغات والتاريخ والجغرافيا بالنسبة لشعبة الآداب ، والرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا وعلوم الحياة والأرض بالنسبة للشعب العلمية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والفرنسية والأنجليزية بالنسبة لشعبة الإقتصاد والتصرف والإعلامية والرياضيات والتكنولوجيا والعلوم الفيزيائية بالنسبة لاختصاص تكنولوجيا الإعلامية . وهو ما يوضحه الجدول الموالي المنقول عن منشور التوجيه المدرسي :

معـاييـر التـوجيـه فـي نهاية السـنـة الأولى من التعليم الثانوي

المسلك

المواد المرجع

شروط التوجيه

الآداب

العربية – الفرنسية – الأنجليزية – التاريخ والجغرافيا

- رغبة التلميذ وميولاته

- نتائجه المدرسية ومؤهلاته

- موافقة مجلس التوجيه

العلوم

الرياضات - العلوم الفزيائية – التكنولوجيا  – علوم الحياة والأرض

الإقتصاد والخدمات

الرياضيات – التاريخ والجغرافيا -  الفرنسية – الأنجليزية

تكنولوجيا الإعلامية

الإعلامية  - الرياضيات – التكنولوجيا – العلوم الفزيائية

 

وجميع هذه المواد تحتسب في مجموع الإمتحانات بضوارب معتبرة . وحتى وإن كان جمع المعدلات يشمل جميع المواد دون استثناء ، فإن مداولات مجالس التوجيه ترتكز على التميز في هذه المواد المرجع وتشترطه لتزكية رغبات التلميذ منذ الوهلة الأولى . وهذا ما يدفع التلاميذ غلى العمل المكثف سنة التوجيه وتوظيف جميع قواهم لتطوير مؤهلاتهم المدرسية عامة وتأكيد تميزهم في المواد المرجع خاصة ، وذلك عبر مزيد التركيز والإجتهاد بالقسم وعبر متابعة دروس الدعم والدروس الخصوصية خارجه . وهذا كله ينعكس ايجابيا على النتائج المدرسية بالطبع ويؤسس لتطوّرها لدى جميع المعنيين بالتوجيه في كل المستويات . فتكون للتوجيه المدرسي بذلك مساهمة معتبرة في الإرتقاء بالنتائج المدرسية سواء من خلال الحصص الجماعية التي تنجز مع جميع الأقسام أو من خلال المقابلات الفردية واللقاءات الخاصة التي يؤمّنها المستشارون مع التلاميذ المسترشدين ، أو من خلال عديد القنوا المتاحة الأخرى .

ومعلوم أن مسألة تحسين النتائج حساسة جدا بالنسبة لوزارة التربية لعدة اعتبارات داخلية تخص آليات الحكم وخارجية في علاقة بعديد المنظمات الدولية وأندية التقييم والتصنيف العالمي ، وهي تعوّل عليها كثيرا لإثبات جودة التعليم الذي تشرف عليه وحسن تأطير وتكوين مخرجاته . ولبلوغ هذه الغايات بعثت وزارة التربية في السنوات الأخيرة بجميع المندوبيات والمعاهد المعنية لجانا جهوية ومحلية لتحسين النتائج المدرسية . ويلعب مستشارو التوجيه المدرسي والجامعي أدوارا قيادية هامة في هذه اللجان يشاركون من خلالها بفعالية كبرى في إعداد ومتابعة الخطط والبرامج الجهوية والمحلية الضامنة لتحسين النتائج المدرسية ، مع بقية الأطراف المعنية بالطبع . وقد بدأت أعمال هذه اللجان تعطي النتائج المرجوّة منها ، بدليل ارتفاع نسب النجاح في الباكالوريا الذي بدأ يتحقق في السنوات الأخيرة ، وللتوجيه المدرسي والجامعي بصمة واضحة في ذلك بالتأكيد ، إلى جانب بقية الفاعلين التربويين المشاركين في هذه اللجان تخطيطا وتسييرا . بل إن مقترح بعث هذه اللجان ذاته هو من مخرجات أعمال المستشارين العامين للتوجيه المدرسي والمتفقدين العامين للتربية إثر تقييمهم لنتائج باكالوريا 2015 الضعيفة والتي لم يتجاوز النجاح فيها نسبة 32 % . بعثت على إثرها لجان وطنية مكوّنة من هذين السلكين تكفلت بجميع المعاهد التي كانت نسب النجاح بها دون النسبة الوطنية . وانطلق العمل على المستويين الجهوي والمحلي لتتجاوز نسب النجاح في السنتين الأخيرتين مثلا ضعف ما كانت عليه في تلك السنة . كما يشتغل المستشارون وبحرص كبير منهم على التهيئة النفسية للتلاميذ ، وأساسا تلاميذ الأقسام النهائية الذين يستعدون لاجتياز الإمتحانات الوطنية . فيؤطرونهم لهذه الإمتحانات على مدى السنة الدراسية : يعلمونهم كيفية الإستعداد لها دراسيا وذهنيا ونفسيا واجتماعيا ، منذ بداية السنة الدراسية وفي وسطها وخلال فترة المراجعة . يتعلم التلميذ كيف يكون حضوره بالقسم إيجابيا ومنتظما ، كيف يشارك في مختلف الأنشطة ، كيف يستفيد من العمل الجماعي وكيف يركّز في مذاكراته الفردية ، كيف يراجع وكيف يتعامل مع الإمتحانات ومع مختلف الوضعيات الدراسية والنفسية التي يمرّ بها خلال السنة ، فيتدرّب بذلك على كيفية التخطيط للنجاح ، والتميّز فيه خاصّة . فالنجاح الدراسي لا يهدى ولا يحدث صدفة ، بل يبنى بتدرّج من المستويات الدنيا إلى العليا ، ومنذ بداية السنة الدراسية إلى آخرها . وفي التوعية بذلك يتميز مستشارو التوجيه المدرسي ، بما يجعلهم مشاركين بفعلية في تحسين النتائج المدرسية .

أمّا مع أقسام الباكالوريا فلا يكتفي المستشارون بتقوية عزيمة التلاميذ ودعمها وتعريفهم بمسارات النجاح في تلك السنة ، بل يعلمونهم أيضا بمختلف التفاعلات التنافسية التي تحدث في التوجيه الجامعي ، حيث يسير هذا الأخير على أساس الجدارة المرتكزة على الأعداد والمعدلات المحرزة في امتحان الباكالوريا ، التي يدخل بها التلاميذ في منافسات حادة مع الراغبين في التوجيه مثلهم إلى أي توجيه محدد . منافسات تسببها محدودية الأماكن في جميع الإختصاصات التي تعلنها طاقة الإستيعاب المثبتة عادة بدليل التوجيه . ويعلم المستشارون التلاميذ أن الفوز في هذه المنافسة يكون على أساس مجموع النقاط التي حصّلها المترشح في عملية حسابية معقدة تدمج فيها أعداد كثير من المواد وبضوارب مختلفة . ويكون الإستعداد لهذه المنافسات مبكرا يضطلع فيه المستشار بدور المرافق النفسي والأستاذ المدرس بدور المرافق البيداغوجي ، فتكون بذلك المساهمة في النتائج المحرزة مناصفة بين الطرفين .

وبذلك نلاحظ المنافذ الكثيرة للتوجيه المدرسي إلى النتائج المدرسية بما يجعله مدخلا مهما من مداخل تحسينها والإرتقاء بها في سلم الجودة والتميّز .              

على سبيل الخاتمة :    

بهذا يتأكد لدينا أن التوجيه المدرسي يوجد التناسق الفعلي بين الأهداف الخاصة بالتلميذ من جهة ، وبالمنظومة التربوية من أخرى ، في استحضار للأهداف الوطنية الكبرى ، ويحرص على تهيئة التلاميذ لمستقبل يزخر بالمستجدات العلمية والتكنولوجية . وفي التوجيه المدرسي صارت الأعمال تنجز بطرق داعمة جديدة بعيدا عن الخوف والتردد الذي يكبّل المسعى ويحبط العزيمة . فتنزاح بذلك الكثير من معوقات النجاح وتنمو لدى التلميذ كفايات جديدة وثقافة خاصة قوامها النظر لمجريات الأمور نظرة موضوعية واعية ومتأكدة من فرص نجاحها . كما تجري جميع أنشطة التوجيه بشكل محكم وداعم للمنظومة التربوية . وجميع هذه الفوائد التي يحققها التوجيه المدرسي للتلميذ وللمنظومة التربوية ككل إضافة إلى تحسن النتائج وارتفاع نسب النجاح وتطور المعدلات المحصلة من طرف التلاميذ سواء في الإمتحانات الوطنية أو في التقييمات الدولية ، هي جميعا من صميم مؤشرات الجودة التربوية الشاملة التي حددها المختصون ، وهو ما يجيز لنا القول أنّ التوجيه المدرسي مكسب فعلي للمنظومة التربوية وأحد المداخل الهامة للجودة التربوية . بل إن المنظومة التربوية ولجت دربا جديدا من الجودة منذ أن وقع إرساء التوجيه المدرسي بصيغه الحالية المطوّرة .    

 

الهوامش :

1 – د . مسعد محمد زياد ( جامعة الخرطوم ) ، إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التربوية التعليمية http://www.drmosad.com/index306.htm

2 – نفس المرجع السابق .

3 – نفس المرجع السابق

4 – د . محمد  يوسف أبو ملح ( غزّة ) ، الجودة الشاملة والإصلاح التربوي ( أنظر بنود الجودة 19 بهذا المقال ) . https://naqaae.yoo7.com/t70-topic

5 – د . مسعد محمد زياد ، مرجع مذكور سابقا

6 – جودت عزّت عبد الهادي وسعيد حسني العزّة ، مبادئ التوجيه والإرشاد النّفسي ، ص 14 ، دار الثقافة ، عمان 1999

7 – المنشور عدد 106 صادر عن إدارة التعليم الثانوي بوزارة التربية التونسية بتاريخ 06 نوفمبر 1992

8 – نفس المرجع السابق

 

 

 

محمد رحومة العزي

مستشار عام التوجيه المدرسي والجامعي

قابس - جوان 2020